Image Not Found

الإبحار في عالم الدماغ

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي ** – الرؤية

الدماغ العضو الذي يقبع في سكون ظاهر في الجمجمة، ظل عصيا ومازال على فهم الإنسان، فمعرفتنا بالكون وما فيه قد تفوق معرفتنا بأسرار هذا الدماغ وخباياه، لكن الإنسان وطموحه الجامح وحبه لكشف المخفي عنه لا يقف عند حد، فمازال يحفر عميقاً ليصل إلى هذا العضو الغامض.

والواقع أننا لم نكن نولي للدماغ قيمة فيما مضى، فالفراعنة مثلا كانوا يتخلصون من الدماغ قبل عملية التحنيط ظناً منهم بأنه عضو لن ينفع الإنسان في الحياة الأخرى، فكانوا يقومون بإخراج الدماغ من الجمجمة قبل التحنيط.

وتشير بعض المصادر إلى أن ابن سينا الطبيب المسلم المشهور كان من أوائل من أشار إلى أهمية الدماغ كما أشار إلى ارتباطه بذاكرة الإنسان.

لكن الذي ساعد وبشكل كبير في فهم آلية عمل الدماغ كان التطور العلمي في مجال تصوير دماغ الإنسان الحي، فهذه التقنيات شكلت منعطفا هاما في فهم ميكنة عمل الدماغ وذلك لأنها نقلت لنا صورا لأدمغة أشخاص أحياء، فلا نحتاج أن ننتظر موته لنشرح دماغه ونربطه بحالته المرضية أو النفسية.

إن ما توصلت إليه علوم الطبيعة إلى يومنا هذا أن الإنسان بدماغه، فهو الذي يتحكم بمشاعره وأحاسيسه وهو الذي يقرر له وهو الذي يختزن ذكرياته ولذا فهو الذي يتحكم في شخصيته، ويمكن لك أن تتصور لو أنك قابلت صديقا بعد فراق دام سنة، وهذا الصديق تعرض لحادث في رأسه افقدته ذاكرته فلم يعد يذكر منها كل ما حدث قبل هذه السنة، فلو كنت قضيت العمر كله معه قبل هذه السنة فلن يتعرف عليك لأن دماغه محا الزمن الماضي الجميل الذي قضيته معه من ذاكرته، فما عدت معروفا لديه! لقد أنمحى الزمن الماضي من دماغه فأنمحت شخصيتك أيضا!

ولذا ففي عصر التبرع بالأعضاء بإمكانك التبرع بجميع أعضائك حتى قلبك يمكنك أن تهبه للآخر ولكنك لا يمكن لك بحال من الأحوال أن تهب له دماغك!

وإذا كان العلم قد توصل إلى طرق يكشف فيها عن بعض تفاصيل حياة إنسان مات قبل آلالف السنين، فإن العلم فشل في وسائل تكشف عن مكنون أسراره التي تقبع في دماغه، لأن الدماغ لا يبقى له أثر بعد موت الإنسان، فهو من أسرع الأعضاء التي تتحلل ولا يبقى لها أثر واضح، ولذا فلا تخش عن أن تنكشف أسرارك وخباياك بعد موتك، فبموتك تموت معك كل أسرارك وتموت ذاكرتك وجميع ما كتمته عن البشر وكأن الله جلت قدرته شاء أن يخفي أسرارك عن الخلائق ويستر عليك حيا وميتا.

إن التطور في فهمنا للدماغ وخباياه قلب العديد من المفاهيم وخاصة في مجال العلوم النفسية الذي نشط بشكل كبير وخاصة أحد فروعه وهو ما يعرف بعلم النفس البيولوجي والذي يسعى إلى وصف سلوك الإنسان من حيث كونه نتاج للمواد الكيميائية التي تنتج في الجهاز العصبي ويذهب البعض إلى أقصى مدى في هذا الاتجاه وهو الذي يرى أن سبب السلوك البشري هو النواقل العصبية؛ بل يرى البعض منهم بأن الدماغ يقوم بترجمة التغيرات البيولوجية في الجسم كارتفاع ضربات القلب، وارتفاع مستوى تركيز السكر في الدم إلى ما نسميه نحن المشاعر والأحاسيس، تماما كما يقوم الدماغ بترجمة الضوء إلى ألوان مختلفة ويقوم بترجمة ذبذبات الهواء إلى صوت.

ولا شك أن لهذا التصور للمشاعر والأحاسيس تحديات بالغة، أولها صعوبة تقبل الإنسان لذلك، اذ تتحول مشاعر الحب مثلا إلى كونها مجرد إفرازات كيمياوية في الجسم، وهكذا بقية المشاعر والأحاسيس، فتصبح بلا قيمة معنوية، فكل ما تغنى به شعراء الحب والغرام ما هو إلا تغير في تركيز بعض تلك الناقلات العصبية في أجسامهم ليس إلا!

لكن هذا الاتجاه الغارق في المادية كانت له بالمقابل بعض الفوائد العملية، فلقد استفاد الإنسان من هذا التوجه في معالجة وتخفيف الأمراض النفسية المختلفة كالأمراض المرتبطة بحالات القلق المبالغ به، وحالات الاكتئاب والأرق وغيرها من الحالات النفسية التي يتعرض لها الإنسان.

وما زالت سفينة الإبحار في عالم الدماغ مستمرة بل غدت غاية في الطموح، فهناك محاولات جادة مثلا لدراسة تفصيلية دقيقة للدماغ البشري وفهم آلية عمله بدقة متناهية، إذ يهدف المشروع البحثي للكشف عن جميع الخلايا العصبية خلية إثر خلية، كما يبحث في كيفية التواصل بينها، ويمكن للقارئ الكريم متابعة ما يجري في أحد أهم هذه البحوث المسمى بـBrain Initiative وذلك عبر موقعهم (https://www.braininitiative.org/).

وهناك بحث آخر ويعرف بـ”مشروع الدماغ البشري” (https://www.humanbrainproject.eu/en/)، وهو من البحوث الطموحة والمثيرة للجدل إذ يسعى الباحثون فيه لمحاولة محاكاة الدماغ البشري من خلال تصميم حاسوب ضخم واستبدال جميع الخلايا العصبية بالترانزستورات ويسعى في نهاية البحث إلى تصنيع دماغ بشري غير عضوي قائم على الترانسيستور!

المشروع الأخير، قائم أساسا على فكرة مادية المشاعر والأحاسيس؛ بل ومادية عملية الوعي برمته؛ إذ يهدف إلى خلق روبوتات واعية.

فهل يا ترى سيحقق غايته ويحصل على روبوتات واعية؟!

وإذا كنَّا نتحفظ بإمكانية وعي هذه الروبوتات فإن القدر المتيقن منه هو أن هذه الروبوتات ستمتلك قدرات هائلة وإمكانات كبيرة، لذا يرى البعض أنه قد يتعذر علينا منافستها.

وهناك اتجاه آخر يسعى إلى الهدف ذاته وهو فهم عمل الدماغ وميكنة نموه وذلك من خلال زراعة الدماغ في المختبر باستخدام خلايا جذعية تأخذ حية من جلد إنسان مثلا وتوضع في ظروف معينة في المختبر ويتم تغذيتها بشكل معين، وأشارت النتائج ليومنا هذا إلى أن ذلك أدى إلى تكوين دماغ مصغر لإنسان في إناء في المختبر وكان هذا الدماغ يتواصل مع أجزائه بطريقة تشبه تواصل الدماغ البشري للجنين.

ترى أين سيقودنا هذا الإبحار؟ هل سيكشف لنا عن أسرار الدماغ، أم أن ثقبا أسود كامنا فيه لن يسمح لنا بالكشف عن مكنون أسراره.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس