يتبنى الفكر الديني مفهومًا عن “القُدرة اللامتناهية” بأنها تسري في كل موجود، من أصغر وحدة إلى أكبرها، فهو، كما جاء في “نهج البلاغة”: “داخل في الأشياء لا ببمازجة” و”خارج عنها لا بمزايلة”، وهذا السريان لم يكن سببًا في منح الأشياء وُجُوداتها وكفى، وإنما ملأها بعشق القدرة اللامتناهية، غير أن الانغماس الشديد في الروتين اليومي يشغل الحواس عن الالتفات إلى ذلك العشق.
ويضرب العُرفاء لأجل توضيح الفكرة مثالًا لطيفًا، فيقولون: لنتخيل ظلمة حالكة قد أحاطت بكرسي، ثم سلطنا ضوءًا شديد الإنارة عليها، ولنسأل: هل رأينا الكرسي أولًا أم رأينا الضوء أولًا؟
الإجابة لا تقبل التردد: لقد رأينا الضوء أولًا، وفي الضوء رأينا الكرسي، غير أننا لشدة تركيزنا على الكرسي، لم نلتفت بشكل كافٍ إلى أن ظهوره لأعيننا إنما تمَّ بواسطة الضوء.
فهل أراد فريد الدين العطار الشاعر الفارسي المتصوّف (627 للهجرة) في “منطق الطير” هذا المعنى عندما جعل الطيور في خاتمة رحلتها نحو اللانهائي لا ترى إلا وجوهها؟
القصة الرمزية تقول إن مجموعة من الطيور تقرر البحث عن اللامتناهي الذي كما تصفه رواية منطق الطير: “تكتنفه مئات الألوف من الحُجُب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد في كلا العالمَين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه. إنه الملك المطلق، المستغرق دائمًا في كمال العزة”.
إنه “السِيمُرغ” سيدُ الطيور وموجدها ومعشوقها الأبدي، والذي تتخذ الطيور قرارًا للوصول إليه مهما كلف الأمر، وقد عينوا الهُدهُد مرشدا لهم يقودهم إليه في رحلة محفوفة بالمخاطر.
طُول الرحلة من جهة، ومشقة السفر إلى اللامتناهي من جهة أخرى، أوجد في الطيور إحباطًا، فأخذت تقدم بين يدي الهُدهُد أعذارًا للتراجع عن الاستمرار. إنها نفس أعذار الآدميين الذين شغلهم جمال الحياة عن المُضي في بلوغ القُدرة اللامتناهية، فالصقر مثلًا، اعتذر عن الاستمرار لأنه لا يُطيق الابتعاد عن أكتاف الملوك والأُمراء، والبُلبُل اعتذر بأنَّ مفارقة الورود النضرة في البستان الأخضر أمرٌ غير قابل للتحمل، واعتذرت الببغاء لأنها لا ترغب أن تعود أسيرة أقفاص الآدميين، ولكن الهدهد لم يستسلم لأعذارهم، فأخذ يفنّدها واحدا تلو الآخر، حتى تمكن من شحذ هممهم مجددًا للطيران إلى جبل “قاف” الأسطوري الذي اتخذه “السِيمورغ” عرشًا له.
مرت الطيور بوادي “الطلب” أولاً، فما لم يتضح جيدًا لماذا يجب أن أطلب القُدرة اللانهائية ليتسنى المُضي في الرحلة إلى آخرها. وبعد ذلك غمست الطيور أجنحتها في وادي “العشق”، فبدون العشق للسيمورغ كيف يمكن تحمل مشقات هذه الرحلة؟ ثم حلقت الطيور فوق وادي “الاستغناء” وعندما تجاوزته، انكشف لها أنَّ كل ما كانت تظن بأنها في حاجة إليه، لم يكن إلا وهماً، فما كانت في حاجة إلا إلى “السيمورغ” فحسب. بعدها رفرفت أجنحة الطيور فوق وادي “التوحيد”، وهناك تحققت هذه الطيور أنه لا موجود بالنحو الحقيقي إلا “السِيمورغ”.
ومن وادي التوحيد إلى وادي “الحيرة”، ولم يبقَ غير وادٍ واحدٍ لا بُد من تجاوزه لبلوغ جبل “قاف”، إنه وادي الفقر؛ حيث رياح الفناء لا تترك شيئًا إلا وتعصف به.
كلُ شيء فانٍ، ويبقى وجه السيمورغ فقط يشع جمالًا وجلالًا. لقد كان “السيمورغ” رمزًا للإله، والوديان السبعة رموز لمقامات التربية الروحية التي يجب على السالك إليه أن يطويها، والطيور رموز للبشر. وعندما بلغت الطيور جبل قاف وقد أنهكها التعب، ووقفت عند باب “السِيمورغ” تنتظر الإذن منه بالدخول في محضره والاستمتاع بجماله اللانهائي، منعها الحاجب في البداية، لكن إصرار الطيور تفوق على منعه، وها هي الآن تستعد لمشاهدة الجمال اللامتناهي والقدر الكاملة للوجود المحض ذي الغنى الأتم.
لكن الذي حدث فاق الوصف..
وجوهر القصة يكمن في هذا الموقف الأخير تحديدا..
لم ترَ الطيور أثرًا للقدرة اللامتناهية!
لا أثر “للسيمورغ” في أي مكان من جبل قاف!
وبالمقابل، هناك مرآة ضخمة معلقة، ظنت الطيور عندما هرعت نحوها بأنها ستجد صورة لوجه “السيمورغ” ذي النور الأبدي يتلألأ فيها، لكن المفاجأة المهولة كانت أن الطيور لم تجد في المرآة إلا وجوهها!
نعم وجوهها فحسب!
كادت أن تنهار من الأسى، لكن بقليل من التأمل أدركت الحقيقة… أدركت أن ما تبحث عنه إنما هو فيها.
القدرة الإطلاقية إنعكاسها في الإنسان، وهي المعنية- بحسب العُرفاء- بالأمانة التي لم تتمكن كافة الموجودات سوى الإنسان من تحملها وإبرازها في ذاته وصفاته وأفعاله: (إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).
فهل فعلًا ذاك هو سِّرُ الأمانة..؟