Image Not Found

ما نجهله عن الخميرة

أ. د. حيدر أحمد اللواتي ** – الرؤية

من منِّا لم يقف عند الخباز ينظر إلى الخبز في الفرن وما إن يخرج منه حتى يحاول تناوله ليتذوق طعمه اللذيذ، ولا شك أن جميعنا لاحظ الانتفاخات الموجودة فيه، ويعرف أن سببها شيء يضاف إلى الخبز يُعرف بـ”الخميرة”.

لكننا عبر تاريخنا الطويل كنَّا نجهل عظمة هذه الخميرة وما أودع الله بها من إمكانات وأسرار، فلقد استخدمها الإنسان في طعامه دون أن يتعرف على طبيعتها، ومنذ أقل من قرنين من الزمن تعرفنا على طبيعة الخميرة، وتبين لنا أنها ليست نباتًا يزرع أو مواد ميتة؛ بل هي كائنات حية مجهرية أحادية الخلية، وتنتمي إلى مملكة الفطريات.

وهذه الكائنات وحيدة الخلايا عندما توضع في العجين تعمل على زيادة حجمه، فهي تقوم بإنتاج الطاقة اللازمة لنموها عبر استهلاك السكر الموجود في العجين، وينتج من استهلاك السكر في العجين غاز ثاني أكسيد الكربون، وكميات قليلة من مادة كحولية تعرف بالإيثانول، وعندما يتم تسخين العجين، فإن ذلك يؤدي إلى تصاعد غاز ثاني أوكسيد الكربون وتبخر الكحول مما يتسبب في تكوين الانتفاخات في الخبز وهو ما يعرف بعملية التخمر.

لقد كان الظن أن عملية التخمر في عصير العنب إنما هي عملية كيميائية، وظل هذا الاعتقاد ساريا حتى القرن التاسع عشر؛ حيث أوضح العالم لويس باستور في منتصف القرن التاسع عشر- من خلال عدد من التجارب- أن عملية التخمر ليست عملية كيميائية صرفة؛ بل عملية بيولوجية؛ لأنَّ الخميرة ليست مادة كيميائية ميتة؛ بل خلايا حية، وهي تنمو وتتكاثر، وأثناء نموها وتكاثرها تقوم بإنتاج الكحول الذي يحوّل العصير العنبي إلى مادة مسكرة.. ومن هنا فإن الكائنات الحية تقوم بإجراء تفاعلات كيميائية شبيهة بالتي نقوم بها في المختبرات، وقال عبارته المشهورة “التفاعلات الكيميائية هي تعبير عن حياة الخلية”.

وحقق أحد الكيميائيين، إنجازا مهما؛ حيث تساءل: هل هناك كيمياويات معينة في هذه الكائنات الحية هي المسؤولة عن عملية التخمر؟

ومن أجل التحقق من هذه الفكرة، قام الكيميائي بوخنر باستخلاص مادة كيميائية معينة من خلايا الخميرة بعد أن طحنها جيدًا؛ حيث لاحظ أنها تقوم بتحويل سكر المائدة (السكروز) إلى مركبين آخرين وهما الجلوكوز والفركتوز، والأهم من ذلك أن المادة الكيميائية التي تقوم بعملية التحويل تبقى كما هي، فهي تقوم بالتفاعل الكيميائي دون أن تُستَهلك!

وعُرفت هذه المواد فيما بعد بـ”الإنزيمات”، وبذلك أثبت بوخنر أن الكائنات الحية تقوم بتفاعلات كيميائية تمامًا كما يقوم الكيميائيون بهذه التفاعلات في مختبراتهم. ومن هنا فقد فتح عمله وعمل عدد من العلماء الآخرين بابًا واسعًا للبحث العلمي؛ إذ أثبت من خلال التجربة أنه يمكن استخلاص الكيمياويات المختلفة من الكائنات الحية والقيام بالتفاعلات الكيميائية المختلفة التي تقوم بها هذه الكائنات في المختبرات دون الحاجة إلى الكائنات الحية ذاتها!

كان هذا هو المدخل لعلم الكيمياء الحيوية، والتقنيات الحيوية الأخرى.

واستمرت البحوث في مجال علم الأحياء والكيمياء الحيوية، ومرة أخرى لعبت الخميرة دورًا مهمًا وحيويًا في تطور هذه العلوم، والسبب أن خلايا الخميرة تعد شكلًا بسيطًا للحياة -نسبيًا- كما إن هناك شبهًا بين خلايا هذه الخميرة وبين خلايا بقية الكائنات الحية بمن فيهم الإنسان؛ حيث تمتاز خلايا الخميرة عن الخلايا البكتيرية الأبسط منها، بأن خلايا الخميرة تحتوي على نواة تمامًا كخلايا النباتات والحيوانات والإنسان، أما الخلايا البكتيرية فلا تحتوي على أنوية بداخلها، علاوة على أن خلايا الخميرة تتميز بقِصر عُمر الجيل الواحد منها، فكل جيل ينتج جيلا آخر خلال أقل من ساعتين، مما يسمح بإجراء دراسات وراثية على عدد من الأجيال.

ولذا.. هناك آلاف الأوراق العلمية المنشورة والقائمة على استخدام الخميرة في البحوث البيولوجية والكيميائية، ولا يعني ذلك أن خلايا الخميرة بسيطة؛ بل هي غاية في التعقيد ويكفي أن نعلم أن الإنزيمات الموجودة في خلايا الخميرة تقوم بتسريع حوالي 2000 تفاعل وتنتج أكثر من 1400 صنف من المركبات الكيميائية المختلفة، وأغلب تلك التفاعلات تحدث في نفس الوقت!

ولعبت الخميرة دورًا مهمًا في إنقاذ البشرية، فقد ساهمت الخميرة في تطوير طرق منخفضة الكلفة لإنتاج دواء مادة “الأرتيميسين”، وهو دواء مضاد للملاريا، وأنقذ حياة الملايين من البشر وخاصة في القارة الأفريقية، كما يتم استخدام هذه المادة أيضًا في انتاج الأنسولين والذي يستخدمه المصابون بمرض السكري، كما ساهمت الخميرة في عدد من اللقاحات المختلفة.

هذه هي الخميرة، وهكذا نجح علماء الطبيعة في الكشف عن سرها وسر عمليات التخمر في المرات القادمة عندما تقوم بشراء أو استخدام الخميرة لا تستهين بها، وتذكر أنك أمام سر من أسرار الطبيعة ونعمة عظمى من الله بها علينا!

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس