عُمان: كتبت – ثريا العذالية / تصوير: مؤيد بن أحمد السيابي
ممراته الضيقة وأسقفه الخشبية وملامح العمارة العمانية التي تجسدت في تفاصيل كل جزء فيه معبرة عن أصالة التاريخ العماني وعراقة تراب هذا الوطن. إنه سوق مطرح، تاريخ عريق منذ أكثر من مائتي عام حمل بين أزقته المتداخلة وبساطة تصاميمه عُمان التاريخ والإنسان والعراقة. على جانب السوق يقع الشارع البحري بمطرح الذي يعده الكثير متنفسًا لهم، فيرتادونه بعد أن يقضوا ساعات طويلة في التسوق والتعرف على سوق مطرح وبأيديهم بعض من المأكولات الشعبية والحلويات القديمة أو العصائر الطازجة التي اقتنوها أثناء تسوقهم. وحتى الوصول إلى داخل السوق تمر بسور اللواتيا وتقع عينك على ما هو قريب منه كسوق السمك والمدرسة السعيدية والبيوت المتواضعة.
مقصده الأول
“منذ سنة 1999 وأنا أتردد على سوق مطرح باستمرار” هكذا بدأ حمود السيابي حديثه عن علاقته بهذا السوق، وقد كان قادما برفقة عائلته لقضاء احتياجاتهم من ملابس وذهب. جالسا على كرسي بلاستيكي متواضع على جانب المحل ينتظر زوجته وابنته إلى حين انتهائهن من التبضع، مستغلا الوقت ذاك في تأمل حركة الناس والسوق وشكله التراثي وتصاميمه التي كما يقول تعيده للماضي كثيرا. يقطن السيابي في سمائل في محافظة الداخلية وبعد المسافة من هناك إلى السوق لم تجعله يوما يتردد ولا يمل من جعل سوق مطرح مقصده الأول نظرا لما يتميز به من تنوع في السلع ومرونة في الأسعار.
وعلى بعد محلين من المحل الذي ينتظر فيه حمود عائلته طفل في الرابعة من عمره يبكي بشدة ويجر يد والده حتى يشتري له اللعبة التي يريدها من محل الألعاب وبعد مساومات عديدة مع البائع لتخفيض السعر اقتنى الوالد اللعبة لابنه الذي أخذ يركض بها على امتداد السوق بين زحمة المارة والضحكات تغمر وجهه البريء.
التعلق بالمكان
أما نجم الدين نعمان الروبة ذو الـ21 سنة يمني الجنسية وهو صاحب محل “جوهرة اليمن” فقدم من اليمن إلى سلطنة عمان وافتتح له والده هذا المحل عام 2019 لحبه الشديد للتجارة والتي فضلها عن إكمال دراسته، بدأ ببيع سلع بسيطة تغطي ربع المحل فقط كالأحجار والخواتم، ومع ربح الأيام التي اكتسبها أضاف سلعا أخرى كالأكسسوارات النسائية والخناجر وأشكال أخرى من الخواتم والأحجار الكريمة والسكاكين والعصي التي يستوردها من تركيا وإيطاليا. يمر الروبة بتحديات منذ افتتاحه لهذا المحل وهي منافسة البائعين الآخرين الذين يمتلكون فكرة مشابهة لمحله إضافة إلى بعد مواقف السيارات عن السوق والتي تصعب الوصول إلى محله حسب ما يقول المشترون للروبة. وعلى الرغم من ذلك يقول: “أشعر بسعادة وراحة لوجودي في سوق مطرح، فحركة الناس والازدحام بين المحلات تدر أرباحا للمحل”، ففي وقت الأعياد خاصة تصل الأرباح من 800 إلى 900 ريال عماني فضلا عن تردد الزبائن الذين اعتادوا الشراء من عنده باستمرار، فمعرفة الناس وثقتهم به زادته تعلقا بالمكان.
اختلاط الروائح
هذه الممرات الضيقة والمحلات المتجاورة والمتداخلة على بعضها أفرزت روائح متمازجة في ممرات السوق فتارة تهب رائحة اللبان والبخور الآسرة وأحيانا رائحة الأقمشة الجديدة المعلقة على مدخل الباب لتلفت انتباه السائح وروائح التوابل والأعشاب لها نصيب أيضا في هذا السوق، فتباين هذه الروائح يكسب المكان حيوية وخفة في التحرك.
تشابه المحلات
ونحن نسير وسط محلات الأقمشة صادفنا البريطانية “آن” البالغة من العمر 53 سنة وهي ربة منزل، عبرت عن إعجابها بسوق مطرح وهي تبتسم طوال مدة المحادثة، فهي تعيش في سلطنة عمان وترتاده كل شهرين لشراء الملابس والأوشحة القطنية، فتقول: “أحب الأوشحة القطنية كثيرا وأفضل سوق مطرح لاقتنائها منه”. وتضيف إلى ذلك الجو اللطيف والخفيف في سوق مطرح يشدها إلى المجيء هنا لقضاء بعض الوقت فتصميم المحلات الصغيرة على سقف واحد جاذب بالنسبة لها. وأكثر ما يلفت في سوق مطرح تعدد المحلات وتشابهها ببعضها فحين تخرج من ممر إلى آخر تجد محلا وأكثر مشابهين لما وقفت عنده سابقا وهذا ما أكدت عليه آن التي رأت من الأفضل أن تتم توسعة السوق ببضائع وأفكار جديدة تكسر الرتابة التي أحدثها هذا التشابه في المحلات.
أوقات المناسبات
لا يخلو السوق من حركة السكان المستمرة لاسيما أيام رمضان والأعياد وإجازة نهاية الأسبوع، إذ يكتظ المكان بالناس بصورة تفوق المعتاد، فيتوافد الأفراد من مختلف المناطق لقضاء ما ينقصهم والتجهيز لمناسباتهم المختلفة أو التوجه مباشرة إلى المحلات التي اعتادوا أن يبتاعوا منها دائما، حيث اكتسبوا علاقات وطيدة مع أصحاب المحلات من خلال التعامل الدائم معهم، فيجادلون بأريحية ويحصلون على ما يبحثون عنه بسهولة، فتراهم يحفظون طريق الوصول إلى المحل الذي يقصدونه دون تيه أو مشقة في البحث. ويتكرر مشهد الخصام والجدال ومحاولات الإقناع الجادة من قبل المشترين للخياطين لقبول تجهيز ملابسهم في الوقت الضائع خاصة وقت الأعياد التي يشهد فيه الخياطون ازدحاما وضغطا كبيرا من قبل الأفراد، والرابح الوحيد هنا مَن كوّن علاقة سابقة متينة وقوية منذ مدة زمنية طويلة مع الخياط.
علاقة وطيدة
وفي محل خياطة الملابس الرجالية “مشاعر للتجارة” التقينا برجل من الجنسية الباكستانية يدعى أكبر علي محمد، ويبلغ من العمر 51 سنة بشوش الوجه تبدو على ملامحه الراحة والهدوء، ملأ البياض معظم لحيته وتجاعيد بدأت ترتسم على وجهه إلا أنها لم تستطع أن تطغى على وجه يواجه الأيام ببشاشة واطمئنان وروح مسالمة انعكست على ملامحه. يرحب أكبر بزبائنه بابتسامة عريضة منذ دخولهم إلى محله ويقابلهم بأحاديث متنوعة فهو يجيد التحدث بالعربية ويفهم جيدا ما يقولون لوجوده في سلطنة عمان 32 سنة، وبدأ العمل في هذا المحل منذ عام 1997، مما أكسبه علاقة وطيدة مع الزبائن وحبا كبيرا لهذا البلد وبالأخص سوق مطرح فالزبائن يترددون عليه باستمرار من مختلف المناطق ولا يملون الحديث معه. يقول أكبر محمد: “أحب عملي هذا في سوق مطرح، فالتراث القديم وحركة الناس وطيب الزبائن تجعلني سعيدا ولا أتمنى لهذا السوق أن يتغير” هكذا عبّر عن انتمائه القلبي لهذا المكان مضيفًا أن المعمار والتراث التقليدي القديم هو ما يكسب المكان جماله ويجذب السياح إليه باستمرار.
باعة على مدخل السوق
وعلى مدخل السوق يتوزع عدد من الباعة ممن لا تقل أعمارهم عن الستين يفترشون الأرض أو يجلسون على كراسي متواضعة ليبيعون مما تيسر لهم من فواكه ومكسرات وحلويات، وينادون بأصواتهم الخافتة ليلتفت لهم المارة، فيبتهجون كلما أعارهم أحدهم انتباهه محاولين حثهم على الشراء منهم فيعددون ما لديهم ويحصون فوائده ويشرحون مذاقه للزبون. تواضع وسماحة لا تجدها إلا عند هؤلاء البسطاء الذين لا ينظرون إلى الحياة إلا بسعة وألسنتهم لا تتوقف عن قول “الحمد لله” عند كل حديث تجريه معهم، فعلى الرغم من ضيق الحياة عليهم إلا أنهم لا يتذمرون في وجه أحدهم ولا يجلسون جلسة المغلوب على أمره، تراهم يمازحون بعضهم ويتحدثون باستمرار ولا تخلو وجوههم التي ملأتها التجاعيد من الضحكات. فالعم عبد الرحمن البلوشي سبعيني يجلس على مدخل سوق مطرح منذ عام 2017، يحب سوق مطرح بتصاميمه ومداخله المتعرجة وضجة الناس فيه.
أكثر من مئة عام
ويشتهر سوق مطرح بمحلات الذهب المتنوعة فيه التي يتوافد الناس عليها كثيرا، فتراهم يدخلون محلا ويتبعونه بآخر حتى يستقروا على المحل الذي يناسب أذواقهم وميزانياتهم. ومن المحلات التي عايشت سوق مطرح منذ القدم محل “مجوهرات صور” الذي حسب ما يقول قيس الصائغ وهو الذي يدير المحل الآن مع إخوانه أن عمر المحل أكثر من مئة عام، وبدأ العمل فيه منذ عام 1999 حيث توارثت العائلة هذا المحل من الأجداد، فحافظت على سمعته ومكانته، كانت قديما تقوم ببيع الذهب وتفصيله، إلا أن توجه المحل اختلف، فأصبح المحل يشتري الذهب من الناس فقط، ويمر في ذلك بتحديات كالغش في الذهب وقدمه إضافة إلى الضرائب التي أضعفت القوة الشرائية، وعلى الرغم من ذلك ما زال المحل يحظى بحركة جيدة من قبل الزبائن وبالأخص ممن تعود التعامل معهم.
ارتباط بالماضي
يحكي لنا نجيب السعيد ذو الـ45 سنة وهو من سكان كلبوه في محافظة مسقط ارتباطه العميق بسوق مطرح، فهو يأتي يوميا إلى السوق لقربه من منطقة سكنه وانتمائه الشديد للمكان الذي اعتاد أن يأتيه منذ الصغر، فيجلس مع أصحابه لتبادل الحديث وشرب الشاي وتمضية الوقت بين ممرات السوق، فكوّن علاقات كثيرة مع أصحاب المحلات واعتاد أن يقتني جميع مستلزماته من هذا السوق كالملابس والبخور والعطور والطعام وغيرها، فهو كما يقول: “يجذبه أن تصميم السوق من التراث ويرتبط بذكرياته كثيرا ويذكره بالماضي”.
تأمل ودهشة
وبين المشي في ممرات السوق، يتحرك البصر بين المحلات المتنوعة وحركة الشراء وتدافع الناس ببعضها أحيانا واعتذارهم على ذلك بصدر رحب وأحاديث متداخلة لمن يتوسطون الممرات للحديث مع أشخاص التقوا بهم صدفة وشرود مفاجئ على تقاسيم السوق وتصاميمه المعمارية وزخارفه التي تجعل الزائر يقف متعجبا ومندهشا من أصالة التاريخ العريق الذي يحمله هذا السوق.
إذن، التراث والمعمار والممرات الضيقة والعراقة التي يحملها هذا السوق عوامل رئيسية لجذبٍ سياحيٍ وافرٍ وشواهد حية على عراقة تاريخه، وتعدد محلاته وتباينها وتواءم الأسعار مع متطلبات المشترين دوافع لتكرار زيارته. كان وما زال معلما تاريخيا وثقافيا جاذبا لم يفقد رونقه وهيبته أمام تطورات العصر بل ما زال قائما وحاضرا ومتسيدا بتراثه وأصالته.