Image Not Found

“بيت الزبير” يسدل الستار على أيامه الفلسفية

عُمان: كتبت: خلود الفزارية

تختتم غداً أعمال ملتقى بيت الزبير الفلسفي في نسخته الأولى في مقر مؤسسة بيت الزبير، بإسدال الستار على الفعاليات المصاحبة، وقدم ملتقى بيت الزبير الفلسفي جلستين تناولت الجلسة الأولى “فلسفة ما بعد الإنسانية واللامركزية الأوروبية” قدمها محمد العجمي، و” حول ضرورة المكان المحايد لتجاوز انسداد الآفاق “، وقدمها الأستاذ الدكتور محمد المصباحي، وأدار الجلسة هادي اللواتي، أما الجلسة الثانية فأدارها الدكتور رضا مهدي، وتناولت “الفلسفة والعصر.. معالم أولية” للأستاذ الدكتور الزواوي بغورة.

وأوضح محمد العجمي في ورقته “فلسفة ما بعد الإنسانية واللامركزية الأوروبية”، أن مصطلح “ما بعد الإنسانية” عن مرحلة تاريخية لمفهوم الإنسان بعمقه التنويري “الكانتي”؛ يتم فيها تجاوز هذا المفهوم، إما عبر الاندماج مع الذكاء الاصطناعي الفائق والآلات الذكية جدا، أو مع البيئة وبقية الكائنات الحية وغير الحية.

ويشير إلى أنه يمكن النظر إلى ظاهرة كالمركزية الأوروبية بأكثر من طريقة للتفكير، والمفاضلة بينها يعود على الأرجح إلى توافر منهج ناجز أو يكاد لدراسة وتحليل هذه الظاهرة. الضعف الذي قد يتخلل هذه المداخل يكمن في حضور الثنائيات أثناء التفكير، إذ ستدفع دفعا باتجاه الاستقطاب والأسطرة التي ستفرضها لاشعوريا ثنائيات الأنا والآخر، أو الأصالة والمعاصرة، أو الماضي والحاضر، بل تبدو لي نفسها كلمة “مركزية” تشي بهذه العقدة الثنائية، لهذا من المهم التعامل معها بحذر. وخصوصا مع التطور اللافت في العقود الأخير للدراسات المتعلقة بمفهوم ما بعد الحداثة ونهاية الإنسان. بحيث صارت من التوسع والتداخل ما يجعل كلمة “مركزية” مشبوهة وغريبة في سياقات النقد الذي خلفته تيارات ما بعد البنيوية في الفلسفة الفرنسية المعاصرة.

مضيفا أن مدارس ما بعد الإنسان تشترك في الحاجة إلى إعادة تعريف وموضعة مفهوم الإنسان في ظل التغيرات الجذرية التي تحدثها التقنيات المتقدمة والهندسة الأحيائية والتغير المناخي، غير أنها تختلف في الكيفية والغاية من ذلك. ركزت فيراندو بشكل أساسي على ثلاث حركات اعتبرتها هي الأكثر حضورا في الأدبيات الأكاديمية للمصطلح، وهي: فلسفة ما بعد الإنسانية، وعبر الإنسانية، ثم المادية الجديدة.

ويشير العجمي إلى أن فلسفة الإنسانية ممتدة في العمق الأنجلو-أمريكي، بينما النقد في فلسفة ما بعد الإنسانية موجه أساسا إلى الإنسانية ذات الإرث القاري كونها صنيعة تنوير الإنسان الأبيض بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، وهذا لا يعني أن فلسفة ما بعد الإنسانية ستكون واضحة ومعرفة تماما بعد تمييزها عن عبر الإنسانية، فهناك من لا يعتبر نقدية ما بعد الإنسانية موقفا فلسفيا كافيا، بل سردية لحركة ثقافية تنطوي على تناقض بين جذورها الأثنروبولوجية ودعوتها إلى إلغاء الحدود بين الهوية الإنسانية والغيرية المتمثلة في الكائنات الحية والآلات.

موضحا أن كلا الفلسفتين تدشنان مشروعا أيديولوجيا للوصول إلى الانسان الجديد، وعلى الرغم أنهما ينطلقان من نفس المفهوم القديم للإنسان والذي ولد مع تنوير القرن الثامن عشر، غير أن التقارب بينهما لا يبدو أنه ممكن بأي حال من الأحوال، ويضيف: هناك ست مرتكزات في المقابلة بين الإنسانية وما بعد الإنسانية: الفاعلية في التغيير، و العلاقة مع البيئة، و الأنطولوجيا، و الأنثروبوسين، و الذاتية، و المرجعية التاريخية، مبينا أنه يمكن ملاحظة أن ما بعد الإنسانية قائمة على فلسفة اتصالية تضع كافة قيم المركزية الأوروبية على المشرحة، وتوجد بدائل نقدية للتقطعات الثنائية المتجذرة فيها، والناتجة أساسا من رغبات كامنة للهيمنة والسيطرة. وبطبيعة الحال فإن هذا النقد الجديد يستدعي نوعا مختلفا من أدوات التفكير التي تستوعب اللامركزية المنشودة في الذاتية التي تتطلع فلسفة ما بعد الإنسانية للتأسيس لها وبنائها.

فلسفة الحداثة

أما الأستاذ الدكتور محمد المصباحي فقد أشار في ورقته التي حملت عنوان “حول ضرورة المكان المحايد لتجاوز انسداد الآفاق” إلى أن تعريف الإنسان في الزمن الرقمي يكون بالاقتراب من التساؤل هل طرأ على ماهيته تغيير أم ظلت كما هي، وأن ما تغير هو فقط آراء الفلاسفة حول حقيقة الإنسان؟ مبينا أنه منذ انبثاق عصر الحداثة أضحى الفلاسفة يشكون في وجود ماهية للإنسان بخلاف الفلسفتين الكلاسيكية والوسطوية، بعدها انتقل للحديث عن سمات المكان المحايد، موضحا أنه مكان افتراضي غير محدود في زمانه، حيث تتداخل فيه أزمنة مختلفة، ولو أنها تصب في زمن الحداثة، أما “الحياد” الذي وصفنا به المكان، فنأخذه بمعنى تعليق الحكم بشأن المعارف والمعتقدات والأحكام المسبقة لضمان الموضوعية والشمولية للمعرفة البرهانية، وتأمين الحوار السلس بين الجماعات المختلفة لضمان الاتصال وتجديد العقد الاجتماعي كلما دعت الضرورة إلى ذلك.

ويتابع المصباحي أن “المكان المحايد” بسماته أشبه ما يكون بالعقل الهيولاني الرشدي الذي لا هوية له حتى يستقبل كل الهويات، وأشبه ما يكون أيضا بالماهية الثالثة التي اقترحها ابن سينا، وهي الماهية المتصورة بالعقل، لا السارية في الأشياء، ولا المنفصلة عنها، “فالمكان المحايد” فضاء معنوي غير محدد بأية ثقافة أو قول كي يكون مؤهلا لقبول كل الثقافات والأقوال والفلسفات، وهو مكان لا حدود له، ومفتوح أمام الجميع، لا يحتاج لأية كلمة سر أو تأشيرة من محاكم التفتيش لولوجه، ولا لأي سلطة تملك الحق وحدها للفصل بين الخير والشر، وبين الحق والباطل. هذا علاوة على أن “المكان المحايد” يلعب دور الوقاية من الضيق الفكري الذي ينجم عن التقابلات، ومن الإعاقة عن التقدم التي تنشأ عن التناقضات. بهذا النحو يكون “المكان المحايد” يملك استراتيجية واضحة لمقاومة انسداد الأفق كي يحصل اللقاء الصعب بين الحضارات والثقافات ورؤى العالم المختلفة والمتضادة في إطار عدالة قولية تمكن من التوافق على معاني الحق والعدل والإيمان للإسهام في تطوير العالم. ولا يمكن أن تتحقق هذه الأهداف، في نظرنا، ما لم يتم تحويل الفلسفة في أمتنا من وجودها الهامشي والعرضي إلى وجود ماهوي وثابت، يرقى بالأمة إلى مستويات عالية من الحضارة والكياسة والتهذيب، ويفجر طاقاتها الإبداعية لصالح الإنسانية كافة.

الفلسفة العصرية

وقدمت في الجلسة الثانية ورقمة عمل للأستاذ الدكتور الزواوي بغورة بعنوان ” الفلسفة والعصر.. معالم أولية”، وأشار إلى أن العنوان الدقيق لهذه المداخلة يجب أن يكو ن: “الفلسفة وعصرنا”، لأن المعنى الأولي للفظ “العصر” في اللغة هو “الزمن المنسوب لشخص أو دولة أو نحو ذلك”، ولذا كان لزاما إرفاقه بعنوان فرعي:” معالم أولية”، ليبين القصد منه، ويضيف: لا جدال في أن معنى الفلسفة متعدد بتعدد الفلاسفة واتجاهاتهم ونظرياتهم، ولكن مع ذلك فإن ثمة خلف هذا المعطى المعرفي والتاريخي المشروع، ما يؤكد وجود سمات أساسية للفلسفة تم يميزها عن بقية العلوم والمعارف.

ومجالات الفلسفة الكبرى هي الوجود أو “الأنطولوجيا”، والمعرفة أو”الأبستمولوجيا”، والقيم أو “الأكسيولوجيا،” مجالات عامة وكلية ومجردة، بحيث لا يمكن مقارنتها بمجالات العلوم الطبيعية التي تتصف بالتدقيق والتجريب والقياس الكمي.

وقد اكتسبت الفلسفة في عصرنا شكلا جديدا غير ذلك الشكل الكلاسيكي المذهبي أو النسقي الذي لايزال يلقى بظلاله على الممارسة الفلسفية. ويتمثل هذا الشكل الجديد في تحولها إلى نوع من النشاط التحليلي والتشخيصي للوضع البشري وقضاياه ومشكلاته المختلفة. ويبين بغورة أن الناظر في الفكر السياسي والأخلاقي المعاصر، يلحظ بروز تيارات تحاول إعادة النظر في فكرة الذات العاقلة، والسيدة، والمستقلة التي تشكل أساس النظرية الليبرالية، واستبدالها بفكرة تقوم على الهشاشة مثلما هو ظاهر في التيار الجمهوري الجديد، أو تيار التعددية الثقافية، أو الفلسفات النسوية، أو فسفات البيئة، مضيفا إلى أنه لا يمكن فصل الذات المستقلة عن طابعها العلائقي، ولقد طورت هذه الأطروحة، ليس فقط فلسفات معينة، وإنما بعض الفروع العلمية في العلوم الاجتماعية، منها علم الاجتماع العلائقي، وعلم النفس الترابطي، وكذلك في الاقتصاد والسياسة مثلما نقرأ ذلك في نظرية القدرات. كما أن الذات المستقلة ليست معطى مجردا، وإنما هي وفقا للنظرية الجمهورية الجديدة، على سبيل المثال لا الحصر، والتي تحدد الحرية بغياب الهيمنة، ترى أن الذات هي أولا قبل كل شيء ذات لها منزلة قانونية معترف بها ضمن مؤسسة شرعية، وهو ما يعني تغليب استقلالية الذات العلائقية عن استقلالية الذات المنفردة. ويختتم بقوله إن الذات العلائقية تعززت بنظرية الاعتراف التي ترى أن الهوية الذاتية لا تتحقق إلا بفعل الاعتراف المتبادل، وضمان إمكانية الدفاع ضد تجاوزات الآخر، والقرار بالحرية باعتبارها غياب للهيمنة، وقدرة على الرقابة التي يملكها الشخص في تقرير مصيره، وتمنع تعرضه للتجاوزات، وكذلك في نظرية أخلاق العناية والاهتمام التي تستجيب إلى وضعنا الإنساني الذي يتسم بالهشاشة، وإلى واقع ترابط وتشابك العلاقات الإنسانية. مؤكدا أنه لا يصح القول إن الهشاشة لا تتعارض مع الاستقلالية الذاتية، إذا أدركنا طابعها التكويني، وتبين لنا أن تلك الاستقلالية الذاتية لا تتحقق إلا بوعي وجودها الهش الذي لا يتوقف فقط عند الحالة النفسية أو الجسدية، وإنما ينطلق من الوضعية العلائقية للإنسان. فالهشاشة ليست فقط مصطلحا علميا، ومفهوما فلسفيا، وتشكل المنظور الجديد للإنسان في عصرنا، أو بالأحرى لمفهومنا لذاتنا في علاقتنا بعصرنا، ونموذجا للتحليل في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخاصة في الفلسفة الاجتماعية التي تعنى بالتجارب الإنسانية التاريخية من منظور نقدي يطمح إلى تحقيق قيم التنوير الجديدة.

الجدير بالذكر إن أبواب الملتقى مفتوحة في يومه الختامي اليوم بمعرض الكتاب الفكري الفلسفي الذي شاركت فيه عدد من المكتبات ودور النشر العمانية، وهي: مكتبة روازن، ومكتبة لوتس، ومكتبة 234، ومكتبة قراء المعرفة، ومكتبة Pages، ومكتبة ردهة القراء، ومكتبة ذواقة، ومكتبة بيروت، ومكتبة دار نثر، بالإضافة إلى مكتبة بيت الزبير. ومعرض الفن التشكيلي العماني الذي ضم أعمالا تجريدية لأربعة عشر فنانا عمانيا، هم: محمد نظام، وحسن مير، ومريم الزدجالي، ورابحة محمود، وعبد الكريم الميمني، ونائبة المعمري، وصالح العلوي، وراديكا هملاي، وإنعام أحمد، ونادية البلوشي، وزهرة الجمالي، وعالية الفارسي، وياسر الضنكي، ومحمد بن الزبير.