يتجادلُ الكثيرون عمّا إذا كانت عُمان دولة سياحية؟!
نعم.. هي دولة سياحية من الطراز الأول، فمنذ أكثر من 7 آلاف سنة- حسب المؤرخين المصريين القدامى- ومصر لها علاقة وطيدة مع الأرض العُمانية التي تتبخر باللبان الظفاري، وكذلك 5 آلاف عام من التاريخ الموثق في الكتب الهندية؛ حيث احتفلت جمهورية الهند بهذه العلاقة الأزلية قبل بضع سنوات.. وهذه كلها دلالات على أن عُمان كانت ترحب بالوافدين إليها لمختلف الأغراض والأسباب؛ كدولة بحرية تستقبل المسافرين عبر السفن والأبوام واللنشات الخشبية القادمة من الهند والسند وسيلان وسيام والصين، ومن زنجبار وممباسا وموزمبيق وتنجانيقا وبوروندي وموريني، ومن بندر عدن والبصرة والكويت والبحرين والحجاز ومصر الفرعونية، وبندر عباس ولنجة وشابهار وجوادر، كل هذه الموانئ ارتبطت بالسواحل العُمانية كمراكز للتموين مثل صلالة وطاقة ومرباط وحاسك وجزيرة مصيرة وصور وقريات وقلهات، وشمالاً كل من مسقط ومطرح والسيب وبركاء والمصنعة والسويق والخابورة وصحم وصحار ولوى وشناص التي كانت تستقبل السفن وما عليها، من أجل تبادل المصالح والتبضع وتصدير المنتجات العُمانية، وفي المقابل استيراد جميع أنواع الغذاء والمنتجات الأخرى، التى يحتاجها السكان. أما الولايات التي تقع في الداخل والتي تبعُد عن البحار؛ فسياحتها داخلية مع عواصم الإقليم العُماني.
من المهم التعرف على الوصف العالمي لمفهوم السياحة؛ حيث عرَّفت منظمة السياحة العالميّة السياح بأنّهم “جميع الأشخاص الذين يوجدون في مكانٍ ما لمُدّةِ 24 ساعة؛ بهدف الحصول على وسائل الترفيه التي تشمل الإجازات بأنواعها والأنشطة الرياضة والاستجمام والتسوق”، كما تعرِّفها الدراسة الخاصة بالسياحة القوميّة الأمريكيّة على أنها “كافة النشاطات أو التصرفات التي يُطبقها الأشخاص أثناء ذهابهم لرحلات خارج منازلهم ومجتمعهم، وهي مجموعةً من الأعمال والوظائف التي تخدم السيّاح وتُساهم في توفير أماكن إقامة، ووسائل نقل أو المواقع الترفيهيّة لجميع السياح”. كما تعد السياحة وسيلةً من وسائل التسويق التي تُعرِّف بخصائص مجموعةٍ من الوجهات المُخصصة للسفر.
استفاد العُمانيون عبر القرون الماضية من قطاع السياحة مثلهم مثل الشعوب الأخرى التي ترحب وتقدم كل التسهيلات لزوارها من كل الجنسيات والإثنيات والأديان، ولكل مرحلة متطلباتها واحتياجاتها، ولكل منطقة ساحلية وداخلية منتجاتها ومميزاتها، وهذه هبة الله التي حبا بها عُمان؛ مما أعطاها جاذبية غير تقليدية للمسافرين، بحيث يجعلون عُمان محطة للتزود في الذهاب والإياب بين الشرق والغرب، وبذلك حصل السائح على أغلب وسائل الراحة في عُمان، حسب ما يتوفر في كل زمان ومكان؛ حيث تقدم مسقط ومطرح- كونهما بندرين إستراتيجيين على بحر عُمان- خدمات ومزايا أفضل وأرقى من بقية المحطات التي يحتاجها العابر بعد عناء السفر، الذي قد يستغرق أيامًا؛ بل شهورًا في وسط البحار والمحيطات؛ لذلك يستعد التجار وأفراد المجتمع المحلي للتنافس على تقديم المنتجات والخدمات المتنوعة للسائح فور وصوله وحتى رحيله.
في التاريخ الحديث، وتحديدًا في العام 1973 أُنشأت أول وزارة معنية بهذا القطاع باسم وزارة الإعلام والسياحة؛ ترأسها صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد حتى عام 1979، وبعدها تم دمج قطاع السياحة بوزارة التجارة والصناعة (آنذاك) بمستوى دائرة وكُلف بإدارتها الأستاذ محمد بن علي بن سعيد اللواتية، ومن ثم رُفع المستوى التنظيمي والمؤسسي للقطاع إلى مديرية عامة بذات الوزارة، وعُيِّن صاحب السمو السيد فاتك بن فهر بن تيمور آل سعيد مديرًا عامًا للسياحة، وفي عام 1994 وإدراكا من الحكومة بأهمية القطاع، تم رفع المستوى إلى وكالة بوزارة التجارة والصناعة، بتعيين سعادة الشيخ سيف بن هاشل المسكري وكيلًا للوزارة للسياحة. وفي عام 1995 تم تعيين محسن بن خميس البلوشي مديرًا عامًا للمديرية العامة للسياحة، وفي 1997 رُقيَ إلى درجة وكيل. وفي عام 2004 شهد القطاع السياحي نقلة مؤسسية أخرى؛ حيث تم إنشاء وزارة السياحة وتعيين المغفور لها بإذن الله تعالي راجحة بنت عبد الأمير كأول وزيرة للسياحة وثالث وزيرة في الحكومة العُمانية، مع بقاء الوزارة بنفس الوكيل؛ ليتم تأسيس قطاع سياحي واعد، وأُطلقت في تلك الفترة حملة بعنوان “السياحة تثري”، وفي 2011 تولى معالي محسن بن علي الشيخ الوزارة، تلاه معالي الشيخ عبدالملك بن عبدالله الخليلي، ومن بعده معالي أحمد بن ناصر المحرزي. وفي عام 2020 عُيِّن معالي سالم بن محمد المحروقي وزيرًا للتراث والسياحة.
فمنذ إنشاء أول كيان مؤسسي معني بالسياحة في 1973؛ أي منذ ما يقارب نصف قرن من الزمن، تم إنجاز عدة مبادرات لتنمية القطاع السياحي؛ منها المشاريع الفندقية وما يصاحبها من خدمات وتقديم التسهيلات المتنوعة للمستثمرين، وفي بعض الأحيان بعض التراجعات في الميزات التي كانت متوفرة عبر العقود الماضية، مما حدا بالحكومة استحداث مختبرات “تنفيذ” (البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي) في مارس 2017، والذي توصل المشاركون فيه إلى توصيات كان بالإمكان تطبيقها بنسبة 100%؛ كونها دُرِسَت من قبل أطراف الإنتاج الثلاثة (الحكومة وأصحاب الأعمال والعمال)، لكن مع الأسف كان مصير أغلب التوصيات مزيد من المراجعات والدراسات؛ مما عطّل وأفقد القطاع فرصة ذهبية للانطلاق، قيل أن يتفشى وباء كوفيد-19؛ حيث تضرر القطاع بسبب الإغلاقات المتكررة والشلل الذي أصاب حركة الطيران والفندقة والخدمات المصاحبة خلال عامي 2020/ 2021 كما حدث في بقية دول العالم.
بالنسبة لعُمان.. فإن تحديات الفترة المقبلة كبيرة إذا ما علمنا أن المواليد الجدد يقدرون بثمانين ألفًا في العام، مما يعني أن عدد الباحثين عن عمل في تصاعد كبير، وهو ما يتطلب حلولًا جذرية تبدأ من تنشيط القطاعات الاقتصادية وعلى رأسها القطاع السياحي، الذي يبدأ من المنافذ البرية والبحرية والجوية التي يجب أن تستقبل مزيدًا من السواح، من خلال الإعلان عن “عُمان بلا تأشيرة لكل الجنسيات”، عدا بعض الدول المُصدِّرة للعمالة ذات الطبيعة الكثيفة، وهي محدودة جدًا، وتحتاج إلى معالجات، بحيث تُربط الحجوزات المسبقة ببطاقة المسافر البنكية الخاصة، وبالتالي سوف تتوفر كل المعلومات من خلال تطبيق خاص يظهر على شاشة الهاتف الخاص بكل مسافر، وهذا الإجراء سوف تطبقه كل الدول التي ترتبط بكأس العالم 2022 في قطر؛ منها سلطنة عُمان، وهذا القرار الجريء سوف يسهم في انسيابية المشاركين في كأس العالم للذهاب والإياب بصفة يومية. وهذا الإجراء بالإمكان تطبيقه بصفة دائمة في جميع المنافذ العُمانية؛ بغية جذب مزيد من التدفقات السياحية، ولا يوجد حل آخر إذا ما أردنا أن يكون القطاع السياحي من القطاعات التي تسهم ولو بجزء في نمو الاقتصاد الوطني.
إن دول العالم وبعد تحررها من قيود كوفيد-19 تتنافس على تقديم خدمات سياحية بأسعار معقولة؛ لذلك يجب مراجعة تعرفة الرسوم والضرائب والجمارك التي تُفرض على المنتجات ذات الصلة بالميزة التنافسية لسلطنة عُمان، إضافة إلى أسعار التذاكر، من خلال إعطاء مزيد من الموافقات لشركات الطيران الراغبة في ربط مطار مسقط الدولي بالدول الشقيقة والصديقة، دون أي تحفظٍ من المنافسة لبقية الخطوط الوطنية. أما أسعار الغرف الفندقية، فإنها سوف تنخفض تلقائيًا إذا ما زاد العرض عن الطلب، لذلك وجب تسهيل التراخيص بأنواعها وتحرير السوق السياحي كاملًا من أية تعقيدات، من خلال التحول من حالٍ إلى حالٍ، باتخاذ قرارات سريعة وغير تقليدية، ومن محطة واحدة، بغية استمرار تراثنا السياحي الذي امتد عبر 70 قرنًا.
الرئيس الأسبق لغرفة تجارة وصناعة عُمان