عُمان: العوابي: خليفة بن سليمان المياحي
صمت رمضان وعمري تسع سنوات .. وتعلمت الفروسية في المصنعة –
للقرية عادات في مجال التكافل الاجتماعي وخدمة البيئة والمجتمع –
خصصت أموال «وقف» لرؤية الهلال وللضيف ولأصحاب المهن ولإصلاح الطرق وصيانة البرك المائية الجبلية –
كان يقيم في قرية العلياء بوادي بني خروص وانتقل قريبا للإقامة في مخطط النهضة الغربية في العوابي مركز الولاية غير أن الشوق والحنين ملازمان له ويجذبانه للتردد للقرية بين فترة وأخرى حيث مسقط رأسه ومقر آبائه وأجداده، إنه الوالد طالب بن علي بن حمود الريامي، نستذكر معه في هذا الحوار ذكريات الشهر الفضيل بين اليوم والأمس.
يقول في معرض حديثه عن سيرته: ولدّت في قرية العلياء وبعد سنتين من عمري أخذني جدي الشيخ القاضي سيف بن حماد الخروصي للإقامة عنده في ولاية المصنعة حيث كان قاضيّا هناك وأقمت عنده تسع سنوات تعلمت عنده مبادئ علوم القرآن الكريم، وتعلمت الفروسيّة على يد المرحوم صاحب السمو السيد الجلندى حيث تزامن وجود جدي هناك مع وجود والده صاحب السمو السيد ماجد بن تيمور (رحمهما الله جميعا)، وبعد وفاة جدي عدت لقرية العلياء وختمت القرآن الكريم على يد المعلم سليمان بن زهران البحري وابنه المعلم إبراهيم بن سليمان البحري وأبلغ من العمر نحو ثمانين عاما.
ويضيف: بدأت الصيام وعمري تسع سنوات وكان ذلك حافزا وتشجيعا ممن كانوا في سني من الأولاد إضافة إلى متابعة والديّ، وفي عمر الشباب سافرت إلى مملكة البحرين وأمضيت هناك 8 سنوات لكسب العيش وطلب الرزق فلم تكن الأعمال متوفرة في سلطنة عمان آنذاك ثم عدت في عهد السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – والتحقت بالعمل في بلدية مسقط حتى أنهيت خدماتي (بالتقاعد).
وكنت قبل السفر قد عملت في التجارة المتنقلة في الأسواق المحليّة بواسطة الجمال فكنت أنقل الفواكه وماء الورد من الجبل الأخضر إلى أسواق الرستاق والسيب ونخل وأحيانا نصل لسوق مطرح وكانت تستغرق الرحلة ذهابا وإيابا أسبوعين حيث وسائل النقل كانت إما بالمشي على الأقدام أو ركوب الدواب كالجمال والحمير وقال: تستغرق الرحلة من العلياء إلى الرستاق فترة طويلة قياسا على الوضع الراهن حيث ننطلق من العلياء صباحا ثم نستريح في العوابي ثم ننطلق إلى الرستاق ونبيع ونشتري هناك ثم نعود ونبات في العوابي وبعد صلاة الفجر نعود إلى العلياء.
وما كنا نقضيه في السفر في الماضي في أيام نقضيه الآن في ساعات قليلة وهذا تيسير من المولى عز وجل لعباده ورحمة بهم أن هيأ لهم السبل وأوجد وسائل الراحة بكافة أنواعها كما كانت الرحلة لمطرح تستغرق أربعة عشرة يوما وتوجد بوابة في روي تقع عند الجسر وإشارات المرور (بعد بيت حطاط) وهذه البوابة تغلق عند أذان المغرب ولا يسمح بالدخول إلى مطرح إلا بعد صلاة الفجر من اليوم التالي.
وقال: لا توجد في سوق مطرح مطاعم فكنا نشتري السمك المشوي الواحدة بتكة والتكة تساوي بيسة وهي من العملات القديمة المستخدمة كما نشتري جدويّة الماء بتكة واحدة، الجدوية أصغر من الجحلة وتصنع من الفخار وفوهتها أضيّق وهي تكفي لشربة رجل واحد وكانوا يجلبون ماء الشرب من الآبار العذبة هناك وينقلونه بواسطة الحمير.
وبالعودة للحديث عن شهر رمضان يقول الوالد طالب الريامي: يجتمع الناس للفطور في شهر رمضان المبارك حيث الرجال يجتمعون في سبل القرية ومنها (سبلة الشرق وسبلة الغرب وسبلة عريش الحيل) والسبل هي المعروفة الآن بالمجالس أما النساء فتجتمع في أحد البيوت والفطور تمر وماء ولبن وقهوة سيلانيّة وبعد الفطور وأداء صلاة المغرب نعود للمنازل فنأخذ ما تيّسر في البيت من الطعام ثم نرجع للمسجد لأداء صلاة التراويح وبعدها نعود للسبل للاجتماع وتبادل الأحاديث والاستمتاع بالوقت مع الجيران فنتبادل الأحاديث والبعض يذهب للمساجد لتلاوة القران والذكر التي هي غالبّا ما تكون عقب كل فرض صلاة ولكن الأكثر بعد العصر وبعد الفجر حيث يتحلقون على شكل دائري ويتدارسون القران فيقرأ واحد والبقيّة يستمعون وهكذا كل مرة يأخذ الدور أحدهم حتى يقرأون جميعا.
وعن رؤية الهلال في رمضان يقول: تم تخصيص شيء من الأموال الخضراء للوقف من النخيل وأشجار الليمون وقد جرت العادة في العلياء أن يكون الوقف لعدة فئات منها إيجار لمن يذهب لرؤية هلال شهر رمضان وهم ثلاثة وأذكر منهم عبدالله بن حمد الشريقي وسلام بن سليمان البحري والعبد بن سعيد الشريقي وقد عرف هؤلاء بالثقة والأمانة وحدة النظر وكانوا يذهبون إلى أعالي الجبل في مكان يسمى (حجر جندي) وكانوا يحملون الزاد لرؤية هلال رمضان والفطور لرؤية هلال العيد وأذكر أن واحدا منهم كان يخبرهم قبل الصعود للجبل برؤية الهلال من عدمه لحدة بصره حيث كان يرى موقع القمر من الشمس قبل الغروب فإن رأى القمر نزل قبل الشمس يقول لا يوجد هلال وأن رأى نزول الشمس والقمر في وقت واحد يقول لا يوجد هلال وأن رأى الشمس نزلت قبل القمر يؤكد أن الهلال واضح.
ومن مظاهر الحياة في رمضان في الماضي كانت توزع ثلاث ذبائح مقسمة في الأول من الشهر وفي الخامس عشر وفي الحادي والعشرين وهذه اللحوم توزع لجميع الأهالي وهذا أيضا من الوقف المخصص في رمضان كما يوزع لهم من التمر أو البر لكل أسرة ست كيسات بما يساوي كيلو جراما واحدا وهذا بشكل يومي حتى انقضى الشهر وقال: كان الناس في حاجة وعسر فالملابس لم تكن موجودة ويصل سعر القماش للباس المرأة إلى عشرة قروش والعيش كان السدس بقرش ويقدر ست سداس بمكيال وكان الاعتماد على ما تنتجه الأرض وخاصة من محصول البر وهو أصناف منها بر وليدي وبرميساني وبر جريدة ومفصيخة وعليسة وعلس وشعير وسهوي والدخن كما يزرع المنج والباقل والغرغر والعدس والدنجو وكل هذه الحبوب والبقوليّات كانت تطحن وتخبز وكانت وسيلة الطحن تقليدية ومحلية وهي عبارة عن حجرتين دائريتين واحدة ثابتة على الأرض وهي القاعدة والثانية على نفس مستواها وتوضع في الأعلى وبينهما ثقب في الوسط يوضع البر من خلاله ويتم تدوير الحجرة العلوية بحطبة تسمى ( المنعد ) وأثناء دوران البر بين الحجرتين يتم الطحن وهي عمليّة شاقه ويحتاج لها جهد بدني والنساء هن من يقمن بهذه المهمة ولكن لم يكن البديل موجودا كما هو الحال معنا.
وقال: إنه إلى جانب حاجة الناس فان البركة موجودة وفي مجالات أخرى الخير كثير فقد حفظت القرية كانت تنتج أسبوعيا ثمانين كيلو جراما من السمن البلدي ومثله من العسل في مواقع كثيرة. ومن مظاهر رمضان وجود من يقوم بإيقاظ الناس بترديد عبارات (سحور سحور يا نائمين الليل) مع ضرب الطبل حتى يصحى الناس لتناول السحور، ثم يؤدون صلاة الفجر. وعن الطريقة التقليديّة التي كانت تستخدم للتغلب على العطش في رمضان والحصول على الماء البارد يقول: قرية العلياء معروفة ببرودة مياهها وقت الصيف وإلى جانب ذلك كنا نستخدم أواني تسمى الجحال مصنوعة من الفخار ونضعها على نوافذ المنزل لنعرضها للهواء فتزداد برودة وقبل أن نسكب الماء فيها ننظفها وثم نبخرها بالعود لتكون رائحة الماء زكية وباردة وكانت توجد شجرة عود في إحدى الجبال المحيطة ولم يكن أحد يستطيع الوصول إليها فكان يطلق عليها النار بغرض كسر الأعواد وقد انقرضت الشجرة تماما.
كما كنا نحفظ الماء في أواني تسمى (الحب) وهو ما يسمى بالخرس وأيضا مصنوع من الفخار وهو أكبر من الجحلة وهذا لا يعلق وإنما يوضع في الأرض ونقوم بوضع (جونية) عليه ونبللها بالماء وأذكر أن أناس زارونا في الماضي وكان الوقت صيفا ولما طلبوا ماء ليشربوا أحضر لهم من الغيل وكان باردا فاستغربوا من برودته كون الوقت كانت درجة حرارته مرتفعة.
وعن العادات في الأعياد يحدثنا الوالد طالب فيقول: توجد عادة جميلة تسمى التهلولة يقوم بها الأطفال في القرية فيردّدون عبارات منها ( سبحان الله لا اله إلا الله ) وغيرها من التسبيح والحمد والثناء لله عز وجل والتكبير ويمرون على البيوت ويأخذون من أهلها بعضا من المأكولات التي يفرحوا بها ومنها القشاط (يصنع محليّا حيث يؤتى بكميّة من السكر مع الماء ويوضع في إناء وتشعل تحته النار فيذّوب بعدها يضاف السمن والنارجيل والسمسم والجوز والزعفران وماء الورد، وعندما يجمد يصب في صينية واسعة ويترك حتى يجف ثم يقسم إلى قطع صغيرة) ثم يوزع للأطفال، ومن مظاهر العيد أنه بعد أداء الصلاة والاستماع للخطبة يقوم الناس بتبادل التهاني بعضهم البعض في مكان المصلى ثم يذهبون لتناول الهريس أو العرسيّة والتي تم إعدادها بذبيحة محليّه كاملة، بعدها يهم الجميع بذبح المواشي فيتعاونون فيما بينهم حيث يتم الذبح في مكان واحد قرب الوادي ثم يحملون كل تلك اللحوم إلى المنازل وكون تضاريس القرية مرتفعة والوصول إليها عن طريق سلّم بني بالحصى سابقا، والآن بالأسمنت وعددها «رفصها» (64) فلا شك أن في هذه الحالة البعض لا يستطيع أن يحمل بنفسه وحيث تتفاوت نوع الذبيحة بين الجمال أو الأبقار والأغنام ولكن كانوا يشكّلون لحمة واحدة في العمل وعند انتهائهم من الذبح وتقطيع اللحم يتم إعداد وجبة التقلية وعقب صلاة الظهر يجتمع الرجال كالعادة في مكان واحد وكذلك النساء فيتناولون من التقليّة التي غالبا تكون مع عسل النحل والرخال والقهوة السيلانية.
واختتم الوالد طالب حديثه بقوله: للقرية نظام جميل فيه إظهار للتكاتف الاجتماعي بين أفراد المجتمع فالحرص على مساعدة الآخرين كان من السمات المميّزة حيث خصص البعض أموالهم الخضراء لتكون وقفا للمسلمين وما يحصد من ثمار تكون لفئات محتاجة للمساعدة ومن ذلك كان يوجد وقف للضيف أو كما يسمى سابقا (الخاطر أو الخطار) بمعنى إذا قدم ضيوف للقرية تخصص لهم نخلة من صنف النغال وتسمى نغالة (الخاطر) أن كان موسم قيظ الرطب تخرف لهم، وان كان وقت التمر يعطوا منه حتى يغادروا القرية، ووقف آخر لمن يقوم برعي الأغنام بالقرية تخصص له قطعة مال أخضر ويكون ثمارها إن كان تمرا أو ليمونا له وهذا بمثابة إيجار عن قيامه بمهمة الرعي ونوع من الوقف للقادمين للقرية لأجل العمل في (الحدادة أو الصفارة) حيث يأتون للقرية مع عوائلهم ويقوموا بصناعة أدوات الزراعة أو «جلي» الأواني التي كانت تستخدم في السابق ويمكثون فيها من شهر إلى شهرين خلال زيارتهم، ووقف آخر لصيانة الطرق الجبلية والبرك المائية المخصصة للورد والتي تملأها مياه الأمطار فتتم صيانتها سنويّا بإزالة الشوائب وتنظيفها بغرض استمرار صلاحيتها وكونه المصدر الوحيد للشرب حيث الطريق طويلة ويحتاج المسافر لنقطة يتزود منها بالماء وهذه البرك كانت تشكل إمدادا للقادم وللمغادر، وهي صمام أمان من العطش، ومن البرك التي يشملها الوقف البركة المؤدية إلى الجبل الأخضر والبركة المؤدية إلى قرى وادي مستل والبركة المؤدية لقرية لمويبين فكانت تلك الفترة الناس لا توجد لهم وسائل للتنقل إلا عبر هذه الطرق ولو لم تكن موجودة البرك لهلك الناس من العطش.