مقولة مذهلة وإعلان عظيم، تلفّظ به مولانا أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام عندما تلقى ضربة السيف المسموم من “أشقى الأشقياء”
من كان في مقام الأمير (ع) حيث قال “يا دنيا غرّي غيري قد طلقتك ثلاثاً” لا يكون ابتلاؤه في مطعم ومشرب ومنكح أو حتى أمارة يكسب بها جاهاً أو سلطةً على البشر، بل في آفاق سمت وعلت على فهم البشر وكنههم. ولعلّي وأمثالي نجتهد لوصف الأمير (ع) ونسطّر السطور وننمّق الكلام ولكن ذلك يبقى من منظورنا المحدود، فننطلق وكأننا نوصّف معجزاتٍ تفوق مدارك البشرية فيصدقّها من يصدّق وقد يُنعت مبالِغاً، ويكذّبها من لا يطيق استيعاب ما رشح من سلوك عليٍّ عليه السلام. وهي روايات تكون انكشفت لبعض الخاصّة ممن صاحبه فلا يعمّ بعضها الجميع لتكون “متفقاً عليه”. ولو تعدّدت مصادرها فتُستلّ سيوف التضعيف لتنال التشكيك والإسقاط. وكيف نعرف كنه من قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “يا علي، ما عرفك إلا الله وأنا”…؟!
وماذا نقول فيمن أعلن “سلوني قبل أن تفقدوني فأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الارض”، إن كنا حقيقة نبحث عن طرق السماء؟ ذلك يستتبع ترجيح الآخرة على الدنيا حيث أعلن الأمير (ع) “أعينوني” ليعيننا. الله تبارك وتعالى أرسل الأنبياء والرسل لهداية البشر، فهَدى أولئك (عليهم السلام) من طلب الهداية من البشر، بيد أن الهداية من الله وما هم سوى وسائل أتاحها الله للمحتاجين من البشر. وحبانا المولى بخير البشر رسولاً ونبياً يهدينا للنهوض من الأوحال التي كانت قد ملأت الأرض للصلاح والسمو ونوال الجنان، إطاعةً لأمر الله. وأخلف علينا رسولنا الحبيب المصطفى بعده معلناً طرق النجاح “ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً”، فتم تكليف الأمير للأخذ بيد المتمسّكين منا به لعبور الطريق المحفوفة بمهاوي الفساد والضلال.
وهل تمجيدنا للأمير (ع) بذكر فضله منقبة له بعد أن أكمل رسالته في هذه الحياة، أم منقبة لنا لإعلان التمسك بهدي المولى سبحانه وتعالى وشريعة المصطفى والتمسك والاستنارة بمنهج الأمير والعترة المطهرة عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ذكرى شهادة الأمير (ع) وذكرى مولده ومناسبات الشموس والكواكب المشرقة من أهل البيت (ع) هي محطات نستزيد منها بأشعّة من الهداية نبراساً وأبواباً لرحمة المولى تبارك وتعالى، تعيننا في دروب المسير على شريعة محمد المصطفى (ص) حتى نجتاز الصراط بالسلامة.
فإليك أتوجه سيدي ومولاي يا أبا الحسنين في ذكرى ارتقائك من هذه الدنيا بإعلانك “فزت ورب الكعبة” شهيداً مضرجاً لحيتك بدم ناصيتك بمصلاك في فجر رمضاني، كما أنبأك سيدك وأخوك وسيدنا ومولانا المصطفى، وأقول (مقتطف من زيارة الأمير في يوم شهادته):
رَحِمَكَ اللهُ يا أَبَا الْحَسَنِ كُنْتَ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلاماً وَأَخْلَصَهُمْ إِيْماناً وَأَشدَّهُم يَقِيناً وَأَخْوَفَهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعْظَمَهُمْ عَناءً وَأَحْوَطَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَآمَنَهُمْ عَلَى أَصْحابِهِ وَأَفْضَلَهُمْ مَناقِبَ وَأَكْرَمَهُمْ سَوابِقَ وَأَرْفَعَهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَشْبَهَهُمْ بِهِ هَدْياً وَخُلُقاً ومنطقاً وَسَمْتاً وَفِعْلاً وَأَشْرَفَهُمْ مَنْزِلَةً وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ فَجَزاكَ اللهُ عَنِ الإِسْلامِ وَعَنْ رَسُولِ اللهِ (رسوله) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْراً قَوِيْتَ حِيْنَ ضَعُفَ أَصْحابُه وَبَرَزْتَ حِيْنَ اسْتَكَانُوا وَنَهَضْتَ حِيْنَ وَهَنُوا وَلَزِمْتَ مِنْهاجَ رَسُولِ اللهِ إِذْ هَمَّ أَصْحابُهُ وَكُنْتَ خَلِيْفَتَهُ حَقّاً. (…) وَقَدْ نَهَجَ بِكَ السَّبِيلُ وَسَهُلَ بِكَ الْعَسِيْرُ وَأُطْفِئَتْ بِكَ النَّيرانُ وَاعْتَدَلَ بِكَ الدّيْنُ، وَقَوِيَ بِكَ الإِسْلامُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَبَقْتَ سَبْقاً بَعِيداً وَأَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَكَ تَعْباً شَدِيْداً، فَجَلَلْتَ عَنِ الْبُكاءِ وَعَظُمَتْ رَزِيَّتُكَ فِي السَّماءِ وَهَدَّتْ مُصِيْبَتُكَ الأَنامَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. رَضِينا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ، وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ فَوَاللهِ لَنْ يُصابَ الْمُسْلِمُونَ بِمِثْلِكَ أَبَداً كُنْتَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَهْفاً وَحِصْناً وَقُنَّةً راسِياً وَعَلَى الْكافِرِينَ غِلْظَةً وَغَيْظاً فَأَلْحَقَكَ اللهُ بِنَبِيّهِ وَلا حَرَمَنا أَجْرَكَ وَلا أَضَلَّنا بَعْدَكَ.
وعظم الله لكم الأجر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ملاحظة: تم تعديل المقال بحذف المرفق الذي كان يفترض كونه مقالاً للمفكر الأديب الراحل عباس محمود العقاد، وتبين أن ذلك الافتراض قد يكون خاطئاً.