Image Not Found

سوق مطرح… حكاية عُمانيّة بعبق اللُّبان وبريق الذهب

سوق مطرح من الداخل. (النهار)

على بعد خطوات من ميناء السلطان قابوس، يمدّ “سوق مطرح” شرايينه في غور المدينة الداخليّة، فاتحاً بوابته البحريّة على مشهديّات ساحرة من أقدم أسواق مسقط، فيستمتع بها الزائر إلى أن تنتهي به عند بوّابة داخليّة توصله إلى الحارات القديمة.

يرقى تاريخ السّوق حسب الروايات المحليّة إلى مئتي عام، والبعض يقول إنّه أقدم من ذلك. لكن معالم القِدم في سوق مطرح، تراكمت عبر عقود جليّة في كلّ تفصيل من هذا المكان، حيث لا تقدّم ولا تؤخّر لغة الأرقام في تشكيل عراقته.

يستحوذ السوق على كلّ حواسك، منذ “الخطوة” الأولى: عبق البخور والعود ولبان صلالة المُجمّر والعطور المركّبة تفوح في الأجواء، فيما تُضيء الأعين ألوان الأقمشة والشالات والملابس التقليديّة وحلي الّذهب والفضّة، فتُغري بلمسها. ومنكّهات الطعام والبهارات تدهم اللسان بحضورها الطاغي شكلاً ورائحة. السّوق محتشد بالزّبائن، لكنه، وبمعادلة عجيبة، مأهول بالهدوء. مرآة أمينة لمزاج مسقط الهانىء.

تشتهر في السّوق كذلك مصنوعات تقليديّة كثيرة ما بين الخناجر والأسلحة القديمة، وبعض الملابس والأحذية الجاهزة والنحاسيات ومجامر البخور والشراشف المطرّزة بنقوش عُمانيّة فنّية، بالإضافة إلى تجهيزات المنازل.

شكلُ السّوق لا يقلّ سحراً عن مضمونه. يستوفي سوق مطرح ملامح الأسواق الشرقية القديمة، في سككه الحميمة والمتعرّجة، التي تتداخل كالمتاهات، وسقفه العالي المبروز حديثاً بزخارف ملوّنة، تستعرض قطعاً من الحليّ العمانيّة التقليديّة. وترتفع المحالّ الصغيرة عن الأرض المرصوفة بدرجات صغيرة، وهي تحتفظ بأبوابها الخشبيّة. كان السوق في السابق مبنيّاً من الطّين وسعف النخيل، وهي موادّ عازلة، تلائم ارتفاع درجات الحرارة، فعمدت البلدية إلى تنسيق توزيع المحالّ لتكون ألوانها منسجمة وجذابة، وصمّمت مدخلي السّوق على شكل أقواس عُمانيّة، تحتفظ بالطابع التاريخيّ للمكان وتعزّز جماليّة المنظر.

يُطلق السكّان المحليّون على هذا السوق في شقّه الصغير تسمية “سوق الظلام”، والسبب يعود لاكتظاظه بالمتاجر، فتحجب عن الأزقة والسكك أشعة الشمس في ساعات النهار، وقد يبتلعها الظلام في الأجواء الغائمة، فيحتاج السّائر حينذاك مصباحاً ليوجّه خطواته. أمّا السوق الكبير فيختص ببيع الجملة.

كان السوق في الماضي يبيع السمك المشويّ فقط لقربه من الميناء، بالإضافة إلى الحلوى العمانيّة والأقمشة. ولم يفتح أبوابه للمنتوجات الحرفيّة والفضيّات إلا قبل ثلاثة عقود تقريباً، بالتزامن مع انفتاح عمان أكثر فأكثر على العالم الخارجيّ، فتقاطرت إليها أعداد أكبر من السيّاح من مختلف الدّول.

لكن طابع “سوق مطرح” السياحيّ لم يُفقده دوره التقليديّ منذ مرحلة الستينيات، فهو لا يزال يمدّ السّكان المحليين بمتطلّباتهم من حواضر البلاد، وبأسعار أرخص من تلك الموجودة في المجمعات التجاريّة الحديثة.

ولعلّ تجهيز العرائس، خصوصاً متطلّبات المهر، يجعل من هذا السوق وجهة للعرائس. ففيما كانت سيّدة ترافق صبيّة في محلّ للمجوهرات، وتهتمّ بتفاصيل طقم تقليديّ من الذهب الّذي ستقتنيه الشابة، يشرح زميل من وزارة الإعلام في عُمان، مرافق لـ”النهار”، بأنّ “المهور في عُمان لا تزال عالية التكلفة، وهي جزء لازم لإتمام الزواج، وتقضي بإهداء العريس لعروسته طقماً من الذهب، يتراوح ثمنه بين 5 و 6 آلاف ريال عمانيّ، أي ما يعادل 16 إلى 18 ألف دولار أميركيّ، فضلاً عن مبلغ نقديّ مرقوم. وهي تكاليف تُعدّ من المهر المقدّم للعروس؛ أمّا المؤخّر فقيمتُه رمزيّة، ويُقيّم بحدود 500 ريال، أي نحو 1,500 دولار أميركي”، ممّا يعكس الآية بالنّسبة إلى المهور في لبنان وبلدان المشرق العربيّ عموماً، ويؤكّد أنّ التّصور في تطبيق الشّرع الإسلاميّ يخضع لمتغيّرات ثقافيّة تخصّ المجتمع الحاضن.

أخيراً، على مشارف حيّ تراثيّ عند الضفة الثانية من السوق تنتهي الجولة، ولا ينتهي تأثيرها حالما يغادر الزائر المكان. كبسولة زمنيّة اسمها “سوق مطرح”، يتجلّى فيها الزمن الغابر، ويستحقّه الحاضر بجدارة، لأنّ الإرث مصانٌ بأهله وحيٌّ.