Image Not Found

نحو قضاء عادل لمحاكمة الأفكار

Visits: 10

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية

أكدت النظريات العلمية للبحوث المرتبطة بالدماغ ما كان متعارفًا عن دور التربية والبيئة في تقييم الأفكار، فقد ذهبتْ إلى أن أحد المعايير الأساسية التي يطبقها الدماغ لتقييم الأفكار هي الخبرات السابقة التي مر بها الإنسان وتربى عليها؛ فالأفكار التي تربى ونشأ عليها الإنسان تولد عند الدماغ أطرا إرشادية معينة يجعلها حكما على ما يستقبله من أفكار.

إن الالتفات إلى هذه النظرية العلمية وما تطرحه من رؤية حول طرق تعاملنا مع الأفكار الجديدة، تجعلنا أمام مسؤولية أخلاقية حول أهمية التأني وعدم التسرع في الحكم على الأفكار التي تردنا، بل لابد لنا من العمل بكل جهد لمحاولة التخفيف من أثر الأطر الإرشادية الداخلية التي نشأ عليها الإنسان عند تقييمه للفكرة الجديدة، وهذا النمط من الأخلاق في مواجهة الأفكار الجديدة ربما لا يلتفت اليه كثيرًا؛ إذ إن الظلم الذي يقع على انسان ما، ربما يسهل كشفه والانتباه اليه، أما ظلم الأفكار فعلى الرغم من كونه خلق غير حميد، لكننا ربما لا نلتفت اليه كثيرًا ولا نعتني به، فقد يكون ظلم الفكرة أشد من ظلم الإنسان لأن الفكرة قد تُحيي أمة وقد تميتها.

ومن هنا فلا بُد من السعي إلى تقييم الأفكار التي ترد على الإنسان بميزان العدالة قدر ما يستطيع وعليه أن يبذل جهده للتخفيف من أثر الأطر الإرشادية التي نشأ وترعرع عليها، وهناك بعض الأمور التي يمكن للإنسان القيام بها للتخفيف من أثر هذه الأطر الإرشادية، وقد يكون من أهمها المطالعة وقراءة مختلف الأفكار والتعرض لها والتعرف على المجتمعات المختلفة والاحتكاك بها والتفاعل معها؛ حيث إن ذلك يجعل الدماغ أقل تمسكًا بأطر إرشادية معينة وأكثر قدرة على استيعاب الأفكار الأخرى. كما إن تكرار قراءة الفكرة الجديدة وعدم التسرع في الحكم عليها والنظر إليها من زوايا مختلفة يساعد في ذلك كثيرًا، وربما محاولة فهم الفكرة دون الحكم عليها له فائدة كبرى في تحييد الدماغ وعدم السماح له في إسقاط أطره الإرشادية التي تربى عليها على الأفكار الجديدة التي تصل إليه وهو من الأمور التي يصعب التحكم بها وتحتاج إلى كثير من التدريب والجهد.

ومن المهم أيضا عند تقييم الأفكار الابتعاد عن النظر إلى المالات والنتائج المترتبة على قبول أو رفض الأفكار، فمثلا نجد أن البعض يشعر بقلق بالغ تجاه الأفكار الجديدة التي ربما تؤدي إلى حدوث اختلافات في المجتمع وهذا القلق يشعرهم بأهمية الوقوف تجاه هذه الأفكار بغض النظر عن صحتها من خطأها لأن سيطرت فكرة الاختلاف والتي ربما تؤدي إلى تمزق المجتمع وتشتته تشكل تهديدا لوجودهم.

إن الخطأ المرتكب هنا هو النظر إلى مالات الفكرة وما ينتج عنها مما يجعل الدماغ لا ينظر إلى أدلة الفكرة بحيادية، فلقد حكم على الفكرة من خلال أطر إرشادية ذات أهمية بالغة بالنسبة للدماغ، ولذا فلابد من التفريق بين صحة الفكرة وبين الظروف الموضوعية التي قد لا ترجح تطبيقها في ظرف مُعين.

الأمر ذاته يحصل عندما يواجه الإنسان بخطأ في فكرة ما كان يؤمن بها منذ صغره، فإن الدماغ في هذه الحالة يحاول أن يتحاشى قبول المعطيات الخارجية ولا ينظر إلى الفكرة بحيادية بل ينظر لها وإلى ما تنتج من تداعيات عليه، ومرة أخرى فإن النظر في هذه التداعيات يجعله لا ينظر إلى الأدلة والمعطيات الخارجية بحيادية كبيرة؛ فالدماغ يتعسر عليه قبول فكرة توصله إلى نتيجة مفادها أنه قضى جل سني حياته مؤمناً بأفكار يجانبها الصواب.

وأخيرًا إن عدم إسقاط اليقين في صحة تشخيص الإنسان للواقع الخارجي يجعله أكثر مرونة وحيادية في تقييم الفكرة بناءً على المعطيات والأدلة الخارجية.

إن الدعوة إلى التأني في تقييم الأفكار ليست دعوة لقبول كل ما هو جديد، بل الغاية هو لفت نظر القارئ الكريم إلى أن العدالة هي غاية نسعى لها حتى على مستوى تقييم الأفكار، فهي قيمة أصيلة ليست مقتصرة على سلوك الفرد الخارجي فحسب. وإذا كانت الدراسات العلمية تشير إلى مدى تأثر الإنسان بالبيئة والتربية التي نشأ عليها فإنَّ هذه الدراسات العلمية تشير أيضًا بأن الدماغ يملك مرونة فائقة وقدرة على تغيير أطره الفكرية الإرشادية حتى بعد سن الستين، ولذا فلا يوجد ما يمنع من أن يجدد الإنسان من أطر دماغه الإرشادية مع الوقت ويتخلص من تلك التي تربى ونشأ عليها إذا كان يرى أنها غير صحيحة ولكنه حتما سيحتاج إلى مزيد من الجهد والعرق.

ختامًا.. لابد من الإشارة إلى عبارة تنسب للإمام علي كرم الله وجهه، فهي تصب في الموضوع نفسه وهي العبارة المعروفة “اعرف الحق تعرف أهله”، وأظنها من أصعب التحديات التي يواجهها الإنسان فتقييم الفكرة والتفكيك بينها وبين قائلها أمر بالغ الصعوبة، فكثيرًا ما يغير الإنسان وجهة نظره حول مفهوم العبارات التي قرأها لأنه ظن أنَّ كاتب المقال هو زيد وإذا به هو عمرو.

علينا أن نبذل جهدًا في تقييم عادل ومرض للضمير في تقييم الأفكار التي تردنا ومحاولة اتباع الدليل فيها وهذا يحتاج إلى جهد كبير وتربية عالية فمعرفة الحق دون أن ننظر إلى أتباعه من البشر لا يتأتى إلا لمن أوتي خيرًا كثيرًا وحظًا عظيمًا.

كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس