Image Not Found

دروس من الكربون

Visits: 10

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية

يعدُّ عنصر الكربون من أهم العناصر الكيميائية؛ فهو مدرسة عملاقة قائمة بذاتها؛ إذ إنَّه من أكثر العناصر دراسة في الكيمياء، فأحد فروع الكيمياء المهمة هو الكيمياء العضوية، والذي يقوم على دراسة أصناف معينة من مركبات الكربون، كما أنَّ الكيمياء الحيوية تعتمد كثيرا على مركبات عنصر الكربون.

والكربون صاحب فضل كبير جدًّا على الدول المنتجة للوقود الأحفوري؛ فهو سببُ ثراء هذه الدول، فالمكون الأساسي لهذا الوقود هو الكربون ومركباته المختلفة.

لكنَّ دور الكربون لا يقتصر على ذلك؛ فهذا العنصرُ سرٌّ من أسرار الطبيعة وكنز من كنوزها، فلقد لعب دورا مهمًّا في تطور الانسان وتقدمه، فأقلام الرصاص لعبت دورا مهمًّا في تطور العلوم والفنون في تاريخ الحضارات البشرية؛ فبهذه الأقلام بُنيت الحضارات ونشرت العلوم والمعارف وسطرت القيم والمبادئ، وبها أبدع البشر بفنون جميلة عكست روحه المحبة للجمال، إنَّ أقلام الرصاص هذه ما هي الا أقلام الجرافيت، والجرافيت مادة تتكون من عنصر الكربون فقط ولا شيء غير الكربون.

ولا يقتصرُ وجود الكربون في أقلام الرصاص فحسب، بل إنَّ أحد أهم الجواهر وأغلاها ثمنا وهو ما يعرف لدينا بحجر الألماس مكون من عنصر الكربون؛ فهذا الحجر الثمين الذي يرصع أيدي الأغنياء من بني البشر، ويتهافت الناس على شرائه، يشتهر بشكله البلوري المميز وصلابته التي لا نظير لها، وهو من الأحجار النادرة التي تنافس الذهب في مكانته، إلا أنَّ تركيبته الكيميائية لا تختلف إطلاقا عن تركيبة الجرافيت المكون لقلم الرصاص؛ فكلاهما يتكوَّن من عنصر الكربون فقط، نعم عنصر الكربون ولا شيء غير الكربون!

لذا؛ فمن لا يملك الألماس ويرغب في أن يمتلك شيئا يساويه في تركيبته الكيميائية فعليه بأقلام الرصاص، فكلاهما “كربون”!

لكنَّ الفارق في المواصفات الفيزيائية كبير جدا، فبينما يكون الألماس شفّافاً وصلبا ولا يملك قدرة كبيرة على توصيل الكهرباء، فإنّ الجرافيت، على عكسه تماما فلونه يميل الى السواد، كما أنه سريع التفتت؛ لهذا يتم استخدامه بالكتابة وقدرته على توصيل الكهرباء تعد جيدة جدا.

ولا يقتصر الأمر على الألماس والجرافيت؛ فهناك مادة أخرى تتكوَّن من الكربون أيضا، وتم اكتشافها مع بداية هذا القرن وهي مادة الجرافين، وتمتاز مادة الجرافين بأنها مادة شفافة أقرب إلى الألماس في شفافيتها لكنها موصلة للكهرباء كالجرافيت، إلا أنها في غاية الصلابة فهي أصلب من الفولاذ بحوالي 100 مرة، لكنها في الوقت نفسه تمتاز بمرونة عالية جدا، وكما ترى فإنَّ الجرافيت يمتلك خواصَّ هجينة بين الجرافيت والألماس.

تُرى كيف يمكن لمواد تحمل نفس التركيبة الكيميائية تماما، وتختلف كل هذا الاختلاف في مواصفاتها الفيزيائية؟! إنه أمر يدعو للدهشة والاستغراب بحق.

إنَّ السرَّ يكمُن في الترتيب والتنظيم ليس إلا، فكما ذكرنا فإنَّ التركيب الكيميائي لهذه المركبات مطابق تماما وبنسبة 100%، لكن ترتيب ذرات الكربون هو الذي يختلف؛ ففي الجرافيت ترتبط ست ذرات كربون مشكلة شكلا سداسيا يكون مسطحا في بُعدين؛ لذا فالجرافيت عبارة عن صفائح ممتدة من الكربون وتتراص هذه الصائح الكربونية بعضها فوق بعض مكونة الجرافيت، وترتبط الصفائح الممتدة برابطة كيميائية قوية يصعب كسرها في الظروف الطبيعية، أما الصفائح المتراصة بعضها فوق بعض فترتبط بروابط فيزيائية ضعيفة، وعند الكتابة فإننا نقوم بالضغط على قلم الرصاص، ويؤدي ذلك إلى تكسر الروابط الفيزيائية في الصفائح المتراصة، ويؤدي ذلك إلى انتزاعها عن الصفائح الأخرى الموجودة في قلم الرصاص، وتلامسها مع الورقة؛ وبالتالي إلى الكتابة.

أمَّا مادة الجرافين؛ فهي عبارة طبقة أو صفيحة واحدة فقط من الجرافيت، وبالتالي فان سمك هذه المادة هي بسماكة ذرة الكربون فقط، ولأن الروابط الكيميائية فيها قوية للغاية؛ لهذا نجد أن الجرافين أصلب من الفولاذ، أما الألماس فيختلف كليا في ترتيب ذرات الكربون؛ إذ تتوزع فيه ذرات الكربون على زوايا هرم ثلاثي الأبعاد، وتتمركز ذرة كربون في مركز الهرم؛ مما يشكل بناءً متماسكا ومترابطا في ثلاثة أبعاد.

إنَّ أهم درس نتعلمه من مدرسة الكربون هو أن المرونة وتنظيم الأمور وترتيب الأوراق بشكلها صحيح هو الفيصل في التغلب على التحديات؛ فالخطة الصحيحة والترتيب المناسب هو الذي سيقودنا لتحقيق أهدافنا؛ فعلى الرغم من أنَّ المادة الخام للجرافيت والجرافين والألماس هي الكربون إلا أنَّ تغيير ترتيب ذرات الكربون هو الذي يصنع الفارق الكبير بينهم، وكذلك نحن في هذه الحياة قد نملك موارد شبيهة جدا بل قد تكون متماثلة تماما، لكن الفيصل في الأمر هو في كيفية ترتيبك للمادة التي تملكها، ومرونتك في التعامل مع الظروف من حولك؛ فتارة تحتاج أنْ ترتب مواردك لتنتج منتجات غالية الثمن كالألماس وتارة تحتاج إلى أن ترتب مواردك لتنتج أقلاما رصاص تغزو كل بيت وتنشر العلم والمعرفة فيها.


المصادر الرئيسية:

1- The Graphene Revolution, The weird science of the ultra-thin – Brian Clegg