Image Not Found

عندما تنهار البديهيات!! (12): هل الرياضيات لغة الطبيعة؟!

Visits: 17

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية

لربما يكون أهم إنجازات الحضارة الإسلامية اهتمامها بالتجربة وتأكيد عُلماء الحضارة الإسلامية على ضرورة الاستعانة بها في التعرف على القوانين السائدة في هذا الكون، وبعدما انتقل لواء العلم والمعرفة إلى أوربا، والتي مضت قدماً وآمنت بالمنهج التجريبي إيماناً عميقاً، قام نيوتن بالاستعانة بعلم الرياضيات لصياغة قوانين طبيعية بصورة رياضية وبالتالي أضاف لعلم الطبيعة عنصرًا هاماً حيث قام بإدخال أبعاد كمية لتصور الظاهرة الطبيعية بدل الاكتفاء بالوصف الكيفي.

وفي بداية القرن الماضي كان للعالم الكبير آينشتاين رؤية خاصة وأسلوب مختلف لفهم الطبيعة، فآينشتاين على الرغم من كونه فيزيائي شهير إلا أنه لم يكن تقليديا في تعامله مع الطبيعة فلقد آمن إيماناً عميقاُ بأنَّ اللغة الصحيحة لفهم عالم الطبيعة هي الرياضيات ولذا كان أهم أداتين استخدمهما لاكتشاف الطبيعة هما الخيال العلمي الوقاد والعقلية الرياضية، وكان آينشتاين بارعاً بكليهما.

واستطاع باستخدام هاتين الأداتين أن يخرج للعالم نظريتين من أهم النظريات العلمية قاطبة وهما النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة.

وكان من نتائج استخدام المنهج الرياضي بكثافة، أن القوانين الفيزيائية المنبثقة بدأت تأخذ دورا آخر أكثر أهمية وذلك لأنَّ دورها لم يعد مقتصرا على الوصف الكمي فحسب، بل أظهرت الرياضيات قدرات فائقة في الكشف عن وجود ظواهر فيزيائية في الطبيعة لم يتم كشفها بعد، وبعض هذه الظواهر التي كشفت عنها الرياضيات كانت في غاية الغرابة ولم يكن للعقل البشري قدرات على تصور وجود هذه الظواهر الطبيعية.

ولنأخذ النظرية النسبية العامة والتي صاغها آينشتاين وطرحها عام 1915 نموذجاً على القدرات الهائلة للمعادلات الرياضية في الكشف عن الظواهر الطبيعية.

فكما نعلم فإنَّ النسبية العامة غيرت مفهوم المكان تغييرًا جذرياً فلقد طرحت مفهوماً مغايراً للمكان، فهو حقل جاذبية للأجسام الكبيرة، ولهذه الأجسام الكبيرة قدرة على تشويه هذا الحقل فتجعله ينحني ولذا فكل ما حول الجسم الكبير يدور في فلكه لأنَّ المكان من حوله منحنٍ ويزداد انحناء كلما قربنا من الجسم الكبير الذي ولد الحقل (المكان)، كما اعتبرت هذه النظرية بأن الزمان ما هو إلا بعد من أبعاد المكان وسميا معاً بالزمكان إنَّ المعادلات الرياضية التي استخدمها آينشتاين كانت معقدة نوعاً ما وتمتاز هذه المعادلات بأنها معادلات عامة ويمكن الخروج بحلول مختلفة تعتمد كلياً على عدد من الافتراضات الأولية وعلى المدخلات التي تستخدم لحل هذه المعادلات، وأدى ذلك إلى أن تتنبأ النظرية بعدد من الظواهر العلمية الغريبة والتي لم يكن يتصورها الإنسان فضلاً عن التصديق بها، فمثلاً تنبأت هذه النظرية بظاهرة الثقب الأسود وهي من أغرب الظواهر العلمية على الإطلاق والتي لم يصدقها آينشتاين بنفسه وظن أنَّها حلول رياضية لا وجود لها في عالم الطبيعة، ولكن هذه الظاهرة الغريبة تمَّ رصدها عام 1970، وغدت ظاهرة الثقب الأسود من المُسلمات العلمية في الوقت الحالي، واستطاع العلماء أن يقوموا بتصوير هذه الظاهرة العجيبة قبل بضع سنوات.

ومن بين الظواهر الغريبة الأخرى التي أشارت لها هذه النظرية ما يعرف “بالأمواج الثقالية”، ويقصد بالأمواج الثقالية أن الكون بذاته يموج ويهتز كما يموج البحر وذلك عندما يصطدم جرمان ضخمان في هذا الكون، وقد أوضح آينشتاين أن هذه الأمواج الثقالية يستحيل الكشف عنها، لأنها غير مرئية وهي في الوقت نفسه سريعة جداً إذ إنَّ سرعتها تعادل سرعة الضوء.

إن الأمواج الثقالية تعني أن الكون ذاته هو الذي يهتز ويموج فليست هذه الموجة متواجدة في الفضاء، بل الفضاء بذاته يهتز ولذا فإن ذلك يؤدي إلى تقليص أو توسيع الفضاء بين جرمين سماويين وهو بذلك شبيه بالزلزال الذي يصيب الكرة الأرضية، فكما أن الكرة الأرضية تهتز عند حدوث الزلزال، فكذلك الأمواج الثقالية عبارة عن زلزال كوني.

ولأنَّ شغف الإنسان لا يقف عند حد معين فلقد حاول العلماء رصد هذه الأمواج الثقالية وتم تصنيع جهاز ضخم ومخصص لرصد هذه الأمواج الثقالية ويعرف الجهاز باسم “الليجو”، وباستخدام هذا الجهاز تمَّ رصد هذه الأمواج الثقالية وذلك في عام 2015، والتي كانت نتيجة تصادم ثقبين أسودين عملاقين وأدى هذا التصادم بين هذين الجرمين الكبيرين إلى اهتزاز الكون برمته وتموجه، لقد كان هذا الاصطدام اصطداماً عظيماً.

وقد يتساءل البعض إذا كان هذا الاصطدام عظيماً فلماذا لم نشعر به؟ والجواب أنَّ هذا الاصطدام حدث في نقطة تبعد عنَّا مسافات خيالية ولذا فإن أثر الصدمة والأمواج الثقالية الناتجة من الصدمة وصلنا بشكل ضعيف للغاية، وقد توصل العلماء إلى أنَّ هذا التصادم الذي أنتج هذه الأمواج التثاقلية قد حدث قبل 1.3 مليار سنة، ولكنها لم تصلنا إلا عام 2015 نظراً للمسافات الشاسعة بين موقع حدوث التصادم وبين الكرة الأرضية.

إنَّ معادلات النظرية النسبية العامة كشفت عن قوة الرياضيات وقدرتها بالتنبؤ بالظواهر الفيزيائية والتي تم رصدها لاحقاً، فهل هناك تنبؤات أخرى كشفت عنها هذه النظرية ولم يتم رصدها إلى اليوم؟

والجواب نعم هناك تنبؤ آخر وهو ما يُعرف بالثقوب الدودية، وهذه الثقوب الدودية هي ثقوب في هذا الكون تصل بين نقطتين مختلفتين وموجودتين في الكون، ولذا فهذه الثقوب الدودية يمكن وصفها بأنها طرق مختصرة للتنقل والسفر بين النقطتين في هذا الكون الرحيب وتعرف هذه الثقوب الدودية أيضًا بجسور آينشتاين روزن.

فهل ستُحقق هذه النبوءة في المستقبل وهل لهذه الظاهرة واقع فيزيائي سيتم الكشف عنه في المستقبل؟

إنَّ قدرة الرياضيات الهائلة على التنبؤ تطرح سؤالا في غاية الأهمية، وهو هل بإمكاننا الاعتماد عليها كلياً في فهم الطبيعة ودراستها؟

إن ما نعنيه بالاعتماد كلياً على الرياضيات في دراسة الطبيعة هو الاكتفاء بما تطرحه الرياضيات من تنبؤات حول الظواهر الطبيعية والتوقف عن إجراء التجارب العلمية للتحقق من التنبؤات الرياضية لهذه الظواهر الطبيعية.

وبعبارة أخرى هل كل ما ينتج من الرياضيات من حلول رياضية له واقع فيزيائي خارجي؟ إذا كانت الإجابة على هذا التساؤل بنعم فهذا يعني أن نكتفي بالرياضيات لأنَّ الحلول تعكس واقعا فيزيائيا موجودا في الخارج.

ولكن الوسط العلمي لا يعتقد في الوقت الحالي بواقعية جميع الحلول الرياضية، بل يعتبر جميع الحلول الرياضية نظرية لا واقع لها حتى تثبت بالتجربة.

وإذا اعتقدنا بصحة الرأي العلمي السائد فالسؤال المهم الذي ستغير الإجابة عليه وجه البحث العلمي تماماً هو كيف يمكننا من خلال الرياضيات نفسها أن نفرق بين الحل الرياضي الذي له واقع في الطبيعة من الحل الرياضي الذي لا واقعية له؟ وهل بإمكاننا الوصول إلى ذلك؟

وأخيرا لنراجع أنفسنا قليلا ولنطرح سؤالا أعمق من سابقه ترى ما الذي يمنع أن يكون لجميع الحلول الرياضية واقعاً فيزيائياً في الخارج؟!.

ختاماً عزيزي القارئ.. أود أن أشير إلى أن هذه آخر حلقة في هذه السلسلة والتي أتمنى أنها قد أثارت خيالك العلمي وجعلتك تحلق عالياً في فضاء العلم والمعرفة مبتعدًا عن تحديات الحياة اليومية ومشاغلها.

المصادر الرئيسية:

Our Mathematical Universe, My Quest for the Ultimate Nature of Reality – Max Tegmark
Black Holes, The Weird Science of the Most Mysterious Objects in the Universe – Sara Latta

(عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها).