Image Not Found

التاريخ الكبير.. سرد التاريخ بأدوات علمية

Visits: 21

أ. د. حيدر أحمد اللواتي – الرؤية

تمتاز الكثير من الشعوب والحضارات المختلفة بسرد قصصي خاص بها يتناول نشأة الكون والإنسان في هذه الحياة، ومآل هذا الإنسان، وكيف ستنتهي حياته، وغيرها من هذه الأسئلة التي لا تفارق ذهن الإنسان منذ أن وُجِد على هذه البسيطة.

ومع تطوُّر العلوم الطبيعية والاجتماعية، بدأت تبرز لنا قصة من نمط آخر، هذه القصة مدعمة بأدلة ونظريات علمية، وبدأ علم جديد بالبروز يعرف بـ(Big History)، ومن المفارقات أنك عندما تبحث عن (التاريخ الكبير) باللغة العربية في محرك البحث “جوجل”، لا تجد شيئا عن هذا العلم الجديد (تاريخ البحث 7/9/2020)

التاريخ الكبير من العلوم الواسعة والحديثة؛ فالبدايات الحقيقية لهذا العلم ترجع إلى العقد الأول من هذا القرن، ويقصد بالتاريخ الكبير سرد قصصي لتاريخ الكون برمته، وكيف نشأ، وكيف تكون، وكيف تكونت الذرة والمجرات والكواكب والكرة الأرضية، وكيف نشأت بذرة الحياة الأولى، وكيف نشأت الكائنات الحية وتطورت، وأخيرا يسرد قصة الإنسان.

ولكن طريقة بحثه في التاريخ الإنساني تختلف عن التاريخ المعتاد، فهذا العلم عندما يبحث عن تاريخ الإنسان لا يبحث في تاريخ الأمم والدول، وإنما يبحث في تاريخ الإنسان ككل، فيبحث عن تطوره البيولوجي ومن ثم يبحث عن تطوره الحضاري والعلمي والتكنولوجي كإنسان؛ فمثلا يبحث هذا العلم في كيفية نشوء اللغة عند الإنسان، وكيف ومتى نشأت الكتابة؟ ومتى نشأت عمليات البيع والشراء؟ ومتى ظهرت العملة النقدية في التاريخ الإنساني؟ ولماذا ظهرت؟ كما يبحث في ظهور الدين والعادات الدينية المختلفة، ولكن هذا العلم لا ينظر إلى الأمم والحضارات المختلفة، بل ينظر إلى البشر كوحدة واحدة، ويكمل هذا العلم البيني مسيرته ببحث الإنسان وما يمر به في الوقت الحالي، وعلاقته بالتكنولوجيا وما هو دوره وعلاقاته مع بيئته، بل والكون كله، وفي سرده القصصي لهذا التاريخ، فإنَّ هذا العلم يبحث عن أنماط التكرار المختلفة في التاريخ، ومن ثم يقوم باستخدامها لينتزع من خلالها سيناريوهات مستقبلية لمآل الإنسان، وما هي الاتجاهات المستقبلية للحضارة البشرية على وجه العموم.

ويُحاول هذا العلم بخلاف علم التاريخ -الذي يركز على الإنسان وتاريخه وحضارته- من خلال طرحه الواسع ورؤيته الكلية لهذا الكون، أن يركز على الكون بأسره، ويركز على دور الإنسان وتأثيره على الكون.

وكما ذكرنا آنفا، فإنَّ هذا العلم لا يتهم كثيرا بتاريخ الأمم والحضارات والتاريخ الوطني للدول، بل ينظر لتاريخ الإنسان كوحدة واحدة، وهو بذلك يتناغم مع الطرح المعاصر ومفهوم العولمة، والذي يحاول أن يلغي الفوارق والخصوصيات بين البشر؛ فكلهم بشر وتاريخهم مشترك.

إلا أنَّ اللافت في النظر في هذا العلم أنه حوَّل مجرى دراسة التاريخ إلى اتجاه مغاير تماما؛ فأدوات البحث لم تعد تقتصر على الوثائق والمستندات التاريخية، بل يعتمد كثيرا على الأدلة العلمية في علم الآثار والأحياء التطورية، والتي تعتمد على التحليل الفيزيائي والكيميائي للعينات التاريخية؛ فمن خلال تحليل لرفات إنسان مر على موته آلاف السنين، يصل الباحث إلى صفات معينة لذلك الإنسان، ويستطيع من خلال ذلك أن يربطها بالبيئة التي نشأ بها، وبالأعمال التي كان يقوم بها، وكم سنة مرَّت على موته، ومن خلال تحليل رفاة بشر آخرين في نفس الفترة يصل الباحث إلى نتائج معينة حول البيئة والعادات الاجتماعية لتلك الحقبة.

ومما يميز هذا العلم أنه علم جامع يحاول أن يعطي صورة متكاملة وكلية تساعد على الفهم وتوسع المدارك الإنسانية، كما أنه وعند رسمه لسيناريوهات المستقبل فإنه يبني تلك السيناريوهات على أسس أقرب إلى الأسس العلمية التي تأخذ العوامل المختلفة في عين الاعتبار، وهو بذلك يتميز ويتفوق على العلوم الأخرى، وباستخدام لغة القصة السردية يحكي لنا حكاية مشوقة، وكأنها مسلسل من المسلسلات التي لا تنتهي حلقاتها؛ فبداية السرد القصصي تبدأ من اللحظات الأولى لنشأة هذا الكون، وينتهي بحلقات عن مستقبل البشرية والكون بأسره وما سيؤول إليه.

إنَّ استخدامَ هذا العلم للأسلوب السردي وعدم اهتمامه كثيرا بالتفاصيل العلمية للحدث من حيث التفسير العلمي والنظريات العلمية التي أنتجت التصور حول تاريخ الكون، يجعل هذا العلم في متناول الجميع حتى لمن لا يُلم بالمفاهيم والمصطلحات العلمية التخصصية بصورة معمقة، وهو ما يجعله متناولا في يد الجميع دون صعوبات تذكر.

إلا أنَّ المنتقدين له يشككون في كونه ذا فائدة كبيرة وينعتونه بأنه علم سطحي، فهو يحاول أن يعطي صورة كلية لموضوع مترام الأطراف، ولا يركز كثيرا على القيمة العلمية للمعلومة، فبعض تلك المعلومات مازالت نظريات علمية تنظيرية لم تثبت واقعا، ولكن طرحها بهذه الصورة قد يوحي بأنها قطعية ولا غبار على صحتها، خاصة عندما تطرح على غير ذوي الاختصاص.

إنَّ الأحداث التي يتناولها التاريخ الكبير بصورتها وبساطتها الحالية يجعل إمكانية انتشاره في العالم أجمع تتم بسهولة ويسر، لذا فمن المتوقع أن يغزو عالمنا الإسلامي عن قريب (إن لم يكن قد حدث فعلا)؛ وبذلك سندخل في تحدٍّ كبير لأنه ربما سيتعارض ويتقاطع مع ما وَرَد في كتب التراث الديني حول نشأة الكون وتطوره، وحول الدين والنبوات… وغيرها من المواضيع التي أشرنا لها، وهو تحدٍّ علينا أن نستعد لمواجهته عن قريب، ورُبما يُمكننا الاستفادة منه في تقييم ما ورد في تراثنا الديني حول هذه المواضيع، بل ومحاولة المزاوجة بينهما لنخرج بقصة سردية نستفيد منها ونفيد البشرية.

ولرُبما يكون هذا العلم من العلوم التي قد تفيد لوضع دراسات إستراتيجية مستقبلية، خاصة إن انطلق من دراسات معمقة متكاملة حول المسيرة البشرية، لذا فربما يكون ذا أهمية للدول والحكومات ومساعدا مهمًّا لتوضيح مجالات الاستثمار المستقبلية وكيفية توجيه الموارد المختلفة.