Image Not Found

أصالة الرحمة في الوجود (11 – 20)

Visits: 12

الشيخ هلال بن حسن اللواتي

(11)

إن الرسالة الإلهية هي الكاشفة عن تلكم الحقيقة المستورة عن عالم الإنسان بسبب فقره الاطلاقي، فكيف يمكن أن يعرف أو أن يتعرف هذا الإنسان الفقير المطلق الذي من إحدى مظاهره الجهل المطلق على الكمال المطلق، وبالخصوص لما نجده في هذا الإنسان من وقوعه بين أمواج عالم المادة التي ترمي به بين بحار هذا العالم، فتسبب في ابتعاده عن العالم المجرد والغائب عنه؟!!، وهذا بذاته كان سبباً في غياب وطمس تلكم القدرات من الإنسان التي تؤهله للتواصل المباشر مع الصانع، فكان أن وضع هذا الصانع العظيم طريقة التواصل مع الكائنات والبشر؛ فكانت منها: الملائكة، قال تعالى :” فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا “{النازعات/5}، ومنها الكتب، والتي تعرف بالكتب السماوية، قال تعالى:” ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ” {البقرة/176}، ومنها الرسل، وهم يعرفون بالرسل والأنبياء، قال تعالى:” فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ” {البقرة/213} وقد فصل في هذا الموضوع الأعلام في محله من أبحاث العقيدة، ولا حاجة لنا هنا إليه سرده وذكره أكثر من هذا المقدار، وما سيهمنا في هذا الشأن سيأتينا الكلام عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى، وأن الذي يهمنا في هذا البحث هو القول بأن الرسالة لا بد من أن تكون حاكية عن مرسلها، وأما أن لا تكون كذلك فهذا يعد نقضاً للغرض برمته، وهذا محال التحقق في البين.

فلابد إذن أن تكون هناك “رسالة ” تكون بمستوى عالم صدورها، وان تكون بمستوى “مرسله ” في دلائلها ومضامينها ونصوصها ومعارفها، ولعل أفضل توصف يمكن التعبير عن مثل هذه العلقة بين “المرسِل” و”الرسالة” هي: “السنخية” و”التناسب”، فلاحظ .. أننا نلقي على هذه الرسالة “أحكام صفات مرسلها”، وأحكام أسمائه، وأحكام كمالاته، وليس هذا الإلقاء إلقاءً اعتبارياً يقبل الخلف والتخلف، بل هو منتزع من طبيعة العلاقة القائمة بين أفراد الحقيقة والواقع، وهذا ما يصطلح عليه بــ”العلقة الوجودية الحقيقية” بين “المالك والمملوك”، تمييزاً لها عن ” العلقة الاعتبارية ” بين “المالك والمملوك”؛ التي من خصائص هذه العلقة الاعتبارية:”الخلف” و”التخلف”.

وأما العلقة الوجودية الحقيقية فهي توجب وجود علاقة بين المالك والمملوك والتي من أهم خصائصها أن المملوك كاشف عن مالكه، ومبين له كشفاً وبياناً بنحو العلية، وبنحو نشاهد فيه وجود تلازم ذاتي غير قابل للانفكاك بين اللازم والملزوم، كالأربعة والزوجية مثلاً، وهذا ما لا يقبل الخلف أو التخلف أبداً.

ولنطل على الرسالة الإلهية إطلالة سريعة: فقد تبين بأن العلاقة بين “المرسِل” و “الرسالة” هي علاقة السنخية والتناسب، والرابطة اللزومية الأكيدة، فلا يمكن تصور رسالة الباري جل جلاله أن تحمل فكراً لغيره سبحانه، ولا أن يكون فيها ما لا يريده الله تعالى، ولا أن تكون ناقصة لأُممها، أو أن تكون مختلة الأفكار والرؤى، أو أن تكون بإسلوب غير حضاري، لأن مجرد القول أن هذه “رسالة الله” فإن المتبادر إلى الذهن بداهة هو أن هذه الرسالة تحكي عن معارفه سبحانه، وتعكس إرادته، وتبين مراده، وهي في مقام التعريف عنه جل جلاله، وبتعبير آخر .. هي في مقام المرآة لمعارفه وعلمه، ويمكن الاعتماد عليها لأنها صدرت منه سبحانه، ومبدأ السنخية والتناسب خير برهان، لأنها علة الانضمام.

(12)

السنخية بين صفات الكمال الإلهي وبين عالم الكتاب والشريعة والرسالة: فإذا كانت السنخية توجب المسانخة بين العلة والمعلول، فإن الرسالة والكتب السماوية معلولة للصفات الكمالية للباري سبحانه وتعالى، فما يصدر منه سبحانه وتعالى من إرادة وطلب يتجلى في عالم التشريع التدويني على نحو الفيض، وهو ليس أجنبياً عنه سبحانه وتعالى، بل هو من سنخ كماله وتجلياته الجمالية، فبناء عليه لا يمكن فصل “الرسالة” عن مصدرها، ولا يمكن سلخ “الكتب السماوية” عن صانعها، فهي في الحقيقة تجلي من تجلياته سبحانه وتعالى، وقد سبق وأن أوردنا هذه الرواية الشريفة:” الإمام الصادق عليه السلام:”لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون”، ولذكر لفظ الجلالة معنى ودلالة عظيمة، فإن لفظ الجلالة “الله” هو اسم يدل على مقام جمع الجموع، الجامع لجميع الاسماء والصفات الكمالية، فلما أن يضاف إليه شئ فإننا نلحظ في هذه الإضافة الرابطة التكوينية الحقيقية، والتي هي من معالم السنخية، فلما أن يقال:”كتاب الله”، فهو بناء على قانون السنخية والرابطة الوجودية يكون هذا الكتاب حاوٍ على ما للفظ الجلالة من معان ودلالات جميعها.

علماً بأن مثل هذا البحث من البحوث المهمة في المقام، ولها نتائجها المدرسية التي تنعكس على المستوى الإيديولوجي، وهي بدورها تلبس سلوك متبنيها ثوبها ولبسها، فتتعامل أفرادها مع القرآن الكريم تعاملاً فريداً.
إشارةٌ مهمةٌ جداً: بناءً على رسمناه في هذا البحث من ضرورة الاختصار على المسائل المتعلقة به، فتجدر الإشارة هنا إلى مسألةٍ مهمةٍ جداً، وهي: أن الكتاب السماوي لما ينزل وتُلحظ فيه السنخية والتناسب، فكيف يمكن تصور تلكم المعارف الغيبية العالية أن تنزل في “كتابٍ” واحدٍ؟!!.

الجواب: ينبغي ملاحظة عدة أمور، منها: أولاً: مراتب الكتب في حملها لهذه المعارف الغيبية العالية.، ثانياً: الاختزال، ثالثاً: الرمزية.
وهناك مجموعة من الأسئلة وهو ترد إلى الذهن، وهي تتعلق باللغة المستخدمة في السماء قبل نزول الكتب السماوية إلى الأرض، وكيفية ترابطها مع اللغة المستخدمة عند البشر، ويمكن طرح هذه الأسئلة كالآتي ..

1- ما هي هذه اللغة المستخدمة هناك؟! 2- هل يتم تداول لغة أخرى هناك؟!، 3- وكيف يتم وصولها إلى الأرض؟!، 4- وكيف يتمكن النبي من فهمها واستيعابها؟!، 5- وكيف يتمكن من إعادة إرسالها إلى المجموعة البشرية بلغتهم البشرية؟!، 6- وهل تفقد المعارف المنزلة خاصيتها وقوتها بعد تنزلها إلى الأرض؟!، 7- وهل اللغة التي يقوم النبي من خلالها إيصال ما نزل إليه/ عليه تحافظ على كل تلكم المعارف السماوية؟!، 7- وكيف؟!.

إن أقرب فهم يمكن أن يجيب على تلكم الأسئلة ومثيلاتها هو ما بيناه قبل قليل وهو: أنه كان لابد من استعمال اللغة الرمزية واللغة الاختزالية، والأمر سهل التصور بهذا المثال التقريبي: إن أقرب شئ يمكن التشبيه به لغة هذا العالم المجرد هو : البعد الاختزالي: من قبيل “الحلم والرؤية” حيث يشاهد فيه/فيها المرء قصةً طويلةً جداً وبتفاصيل دقيقة، ولكنه لما أن يستيقظ يجد نفسه لم يستغرق في نومه سوى دقيقتين!؛ مع أن القصة التي شاهدها في عالمه نومه يمكن أن تستغرق ساعات!!، البعد الرمزي: من قبيل لغة “جهاز الحاسوب الآلي”، فإنه إنما يتعامل مع كل ما يدخل فيه من البيانات والمعلومات، ووقت تخزينها فيه؛ فإنه يتعاملها معها بلغة “الأرقام”، مع أنه وقت كتابتها تكون الكتابة باللغة العربية أو الإنجليزية، أو المالية، أو الصينية، أو الروسية، أو الهندية، أو الفارسية، أو الإيطالية، أو الفرنسية … إلخ، ويفيد هذا التشبيه أيضاً في التقريب لمعنى الاختزال، فتأمل.

وفي الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى سوف نمثل بما ذكرناه على العالم العقلي.

(13)

عالم العقل وتجلي البعدين فيه: ويمكن أن نشبه للبعدين “الاختزالي” و “الرمزي” بما هو موجود في عقولنا من معارف وعلوم، فتأمل هذا أيضاً، فإن ما هو موجود في الذهن ومن ثم ما يخرج من طرق التواصل البدنية؛ أهل هو هو، أم أنه ليس هو؟!!.
والجواب : فالجواب يحتاج إلى بعض التفصيل، فلابد من النظر إلى الأمر بلحاظين وهما: بلحاظ الظهور: إن ما ظهر في الحيز الاجتماعي هو نفس ما هو في الذهن من أفكار ومفردات، فهذا حاكٍ عن حقيقة ما في الذهن، بلحاظ اللغة: فهما مختلفان، فما هو موجود في الذهن فوجوده ذهنيٌ مجردٌ، ومحكومٌ بأحكامه، ومن أهم أحكامه أنه بسيط غير مركب، مجموع في محل واحد ببساطته، والذي هو موجودٌ في الخارج فوجوده “تجلٍ” لعالم العقل المجرد، وهنا يفقد بساطته ويتحول إلى مركبٍ، والعلة التي تحوله هي لأن التجلي والظهور محكومٌ بلحاظ العالم الذي ظهرت فيها تلكم المعارف ، فالعالم هو عالم مادي، يفرض وجوده المركب المادي على الفكرة البسيطة المجردة، لتبرز في حلتها الجديدة، فيتمكن المرء من التخاطب والتواصل والتوسعة والتكثير لما هو يريده في واقع صقع نفسه.

فالفكرة التي توجد في الذهن نراها بسيطة غير مركبة، وعلى بساطتها نجدها تحوي معارف جمةٍ جداً، ولكن لما أن تظهر هذه المعارف وتتنزل من عالمها ووجودها الذهني إلى عالم المادي؛ نجدها تتنزل بنحو ينبهر المرء منها من جهات عديدة، والتي منها: الكم والنوع والحجم والدقة، فيضع المرء عشرات بل ولربما مئات المجلدات والكتب في العالم الخارجي المادي، مع أننا نجد أن كل هذه المعلومات الهائلة جداً موجودة في هذا الذهن البشري، فلاحظ بين العالمين الذهني والخارجي، فإن عالم الذهن يحوي الفكرة مختزلة وكأنها مضغوطة، وفي الوقت نفسه قريبة من “الرمز”، حيث تتلائم والفكرة عالم الذهن، فتأمل فيما تقدم من الكلام جيداً، فستجد بغيتك، وجوابك بدقة، بل وبجودةٍ عاليةٍ جداً، وسيوقفك على فهم صحيح للعلاقة بين الوحي والرسول وما يوحى إليه.

المحصلة النهائية المهمة: فتحصل .. بأن الرسالة السماوية فيض من فيوضات الكمال الإلهي، وهي حاكية عن اسمائه وصفاته، فما يريده المرء عن باريه وخالقه يجده في كتابه ورسالته، وفيها إرشاداته سبحانه وتعالى وتعاليمه، وأوامره ونواهيه، وأحكامه وتشريعاته وقوانينه، فالرسالة السماوية وإن كانت تعد رسالة السير والسلوك إلى الكمال المطلق، إلا أنها تعتبر كاشفة عنه وعن هذا الكمال، وبلحاظ الرتبة يتقدم الأخير، إذ لا يتعقل السير إلى الكمال المطلق من دون تقدم معرفة “الله” تعالى.

إشارة مهمة: من المهم أن نؤشر إلى مفاد مدلول “السنخية”، وسوف يفتح لنا البحث مسائل كثيرة، وفروعاً مهمةً بين “المرسِل” و”الرسالة” من قبيل: 1- تجاوز مضامين الرسالة ومفرداتها ومعارفها أبعاد الزمان والمكان، 2- القدرة الاستيعابية للرسالة لكل مجريات الأحداث والوقائع والمتغيرات، 3- الهيمنة الكاملة على كل الاطروحات الوضعية التي توضع من قبل الإنسان مهما تطورت أو اتسعت أو نمت عبر الأزمنة، 4-لا يعد ظهورها في لباس الدين إلا مظهراً شأنياً يتناسب والزمان وأهله، وإلا فهي المظلة الأساسية لكل دين، 5- كمالها اللامتناهي لعلقتها بــ”المرسِل” بشكل مباشر، وهذا “المرسِلُ” لا منتاهٍ في كمالاته، نعم سيبقى الكلام في تفسير تغير الرسالات من زمن إلى آخر إلى وصولها إلى “القرآن الكريم” الشامل الكامل؟، فسيأتينا بعض بيانه إن شاء الله تعالى، 6- اكتساب “الرسالة” صفة الشرعية المطلقة، 7-اكتساب “الرسالة” صفة الحقانية المطلقة.

وبهذا نستطيع أن نعبر عن “الرسالة” الإلهية بما هي هي معجزة إلهية، ولا يمكن تصور نسبة الإعجاز إلى “القرآن الكريم” دون غيره من الرسالات السماوية، نعم الفارق بين هذه الكتب السماوية أن سائر الرسالات قد تعرضت لعبث بشري عدا القرآن الكريم، وتعرض الرسالات للعبث البشري لا يتنافى مع إعجازية مضامين تلكم الرسالات حال عدم وصول العبثية، نعم امتاز القرآن الكريم بمجموعة من الامتيازات الفريدة، ومنها ضمان الحفظ وعدم قدرة البشرة على العبث به.

(14)

أجل إن “السنخية” بين “المرسِل” و”رسالته” تسبغ على الرسالة صفة الكمال الإلهي بقطع النظر عن حالها ذاتاً، وأي منها أشد ظهوراً لهذا الكمال وأي منها أضعف ظهوراً، وهذا ما يعطيها صفة التميز دائماً وبشكل مستمر وإن تطور الزمن وتغير وتبدل، فإن ما عليه صفة هذه الرسالات من الكمال الإلهي بلحاظ السنخية لا يمكن أن تزول بتطور الإنسان في حياته، فيمكن أن يقال أن الرسالة السماوية (أ) والتي جاءت في الزمن السابق قد انتهت صلاحيتها لانتهاء زمانها لعلة وهي تطور الشعوب والأمم، وقد آن الأوان لنزول رسالة أكثر تطوراً مجاراة لحال الامم والشعور التطوري والتنموي، فهذا الكلام غير مقبول بل ولا منسجم ولا متوافق ولا منطقي بلحاظ العلقة بين “الرسالة” وبين صاحبها.

أظن –وكما بينا سابقاً- ضرورة البدء من “الله” تعالى في فهم كل ما يتعلق به سبحانه من الرسالات ومن الخلفاء الذين بعثهم وأرسلهم وجعلهم، فإن هذا ما يولِّد لدى الإنسان فهماً صحيحاً وواقعياً لما يتعلق به جلت عظمته، بعكس ما لو انطلق الإنسان في فهمه للرسالات وخلفاء الله تعالى، فإنه سيتعرض لاشتباهات كثيرة جداً، بل ولأخطاء جسمية جداً، ما سوف تبعده عن الحقائق والوقائع، وستولِّد لديه أفكاراً وانطباعات غير صحيحة عن الرسالة والخلفاء على سواء.

ملاحظة: حصر تلبية الحاجة الوجودية للكائنات في الصانع: وتجدر الإشارة هنا إلى مطلب مهمٍ جداً، وهي الذي يتعلق بــ”أهمية” هذه “الرسالة السماوية”، فبعد الانتهاء والفراغ من ضرورة الحاجة إلى “الله” سبحانه، وأن لا بد من التواصل معه حيث تنحصر تلبية الحاجة فيه جلت عظمته فقط، فهذا الحصر والانحصار يدعو بالضرورة التواصل معه، وهنا نقول: 1- بما أنه “الصانع الوحيد” للكائنات والموجودات على الإطلاق، 2- وبما أن الإنسان غير عارف بالدقائق الوجودية، 3- وبما أن الإنسان يحمل في نفسه طاقات هائلة، ويحتاج إلى دال يدله عليها وعلى كيفية استعمالها استعمالاً موافقاً لاحتياجاته الذاتية..

كان دخول “اللطف الإلهي” في البين لتبيين تلكم الدقائق الوجودية ولتلكم الكيفية، وكان تحقيق هذا التبيين من خلال إنزال “رسالة” تحمل المعارف الإلهية، وتبين إرادته، وتظهر طلباته، وتكشف نواهيه، وهي في الوقت نفسه تحقق مبتغى الإنسان وما تريده ذاته تكويناً، وهذا ما نعبر عنه بالتواصل الإلهي مع العباد والموجودات.

ومن الطبيعي أن تترتب على الاختيار مجموعة كبيرة من الأسئلة، ومن اسلوب التعامل، وكذا سوف تتغير أنماط التفكير وكذا المناهج، وهنا سترد أسئلة أخرى من قبيل: 1- كيف سيتخاطب “السفراء الإلهيون” مع “البشر”؟، 2- هل سينقلون كلام الصانع إلى الناس؟، 3- أم سيحملون مشروعه بشكل كامل ثم يطرحونه على الناس بلغتهم؟، 4-أم كيف؟

كل هذا الكلام كان في القسم الأول والذي كان متعلقه الرؤية الطولية الهرمية إلى “الرسالة”، والآن لننتقل إلى القسم الثاني بعونه سبحانه، وهو الرؤية الطولية إلى رسول الله تعالى.

(15)

القسم الثاني: الرؤية الطولية الهرمية إلى “رسول” الله تعالى، لقد أوضحنا بعض المطالب المتعلقة بهذا العنوان فيما سبق، ويمكننا التمهيد إن شاء الله تعالى بهذا المثال العرفي، فتأمله:

السفير العرفي: عندما تختلف العوالم، فإن من الطبيعي أن تتعارف البلدان على بعضها من خلال “سفراء العرفيين” و”رسل” من قبل “الحكام العرفيين”، إذ اقتضى الحال أن لا يتم التواصل والتعارف إلا من خلال “الوسائط”، نعم قد تأتي مرحلة سفر “الحاكم العرفي” بنفسه إلى بلدة معينة لترسيخ التعارف والروابط والأواصر، أو لدفع العظيم من القضايا، إلا أن ما هو متعارف عليه بين البشر الاكتفاء بوجود “سفير حاكم البلد الفلاني”، وفتح مكتب التواصل.

دور السفير العرفي: وتناط بالسفير العرفي مجموعة من المهام، ويختلف نوع ومستوى التمثيل الدبلوماسي، فقد يكون خفيفاً، وقد يكون بمستوى عالٍ، ووفق هذا التمثيل تختلف مهام السفير العرفي، ولعل أهم دور لهذا “السفير العرفي” يتمثل بنفس وجوده إذا يكون مخبراً بلسان حال وجوده بأن هناك بلداً ما، وشعباً ما، وحكومةً ما، وحاكماً يحكمها، فيتعرف الشعب الذي يتواجد على أرض وطنهم ذلك السفير على الطبيعة التي عليها تلك البلدة من خلال هذا السفير المرسل إليهم، فهذا يعني أن في هذا الدور يكتفي السفير العرفي بالاعتماد على الارتكازات العرفية، وعلى تنبيه الذهن إلى أصل وجود البلد والشعب.

ولأجل ترسيخ الأواصر أو المعرفة عن تلك البلدة يقوم السفير ومن معه من فريق عمل بتنظيم مجموعة من الأنشطة الرسمية كالمعارض أو الاحتفالات وشبههما، فتكون هذه الأنشطة حاكية ولو بنسبة ما عن بلد انتمائها، مُعَرِّفة لهم عن حالها، وسنلاحظ على هذه الأنشطة أنها تحمل “روح الرمزية”، و”روح الاختزال”، إذ أنها تقدم ذلك تراث الضخم والفكر المتبنى والطبيعة السلوكية والسياسة التي تتبعها وحال شعبها في نماذج معينة فقط من الأنشطة، إذ أن تعريف الناس بالتاريخ العريق والمراحل التي مرت بها الشعوب في بلدانها عبر القرون لا يمكن تقديم كل ذلك إلا من خلال “نماذج” معينة فقط، وهذا ما نعبر عنه بــ”الرمزية” وبــ”الاختزال”، فتأمل.

اختيار الطريق تابع للمنهج والرؤية: وأمامنا في الدخول إلى مفهوم “الرسول” ومتعلقاته طريقان: الطريق الأول: من خلال معرفة العلاقة بين “الرسول” وبين “الله” تعالى، الطريق الثاني: من خلال معرفة العلاقة بين “الرسول” وبين “الرسالة”، فبحسب المنهج والرؤية الطولية تكون النتيجة واحدة، إلا أن الفارق قد يظهر في تقدم “الرسول” أو “الرسالة” على الآخر، والسؤال المهم الذي قد يطرح في البين هو: 1- أي منهما متقدم على الآخر؛ هل “الرسالة” متقدمة على “الرسول”، أم “الرسول” متقدم على “الرسالة”؟!، 2- أم أن كلاهما متساويان، ويقعان في رتبة واحدة، وعرض واحد؟!، والكلام هنا ليس في التقدم والتأخر الزماني، بل كما لاحظت أن النظر هنا بلحاظ التقدم والتأخر الرتبي.

فأي من الأمور الثلاثة متحققة في الرؤية القرآنية: الأول: التساوي بين الرسول والرسالة، الثاني: تقدم الرسول على الرسالة، الثالث: تقدم الرسالة على الرسول.

ولمعرفة هذا المطلب سوف نقتصر بالإشارة إليه خشية الخروج عن موضوع بحثنا، ومفاد هذه الإشارة هي: إن الاختيار لإحدى الأمور الثلاثة يعتمد على المنهج المختار، فقد تقدم سابقاً بوجود منهجين في رؤيته إلى “الرسالة” و “الرسول”، وهما: الأول: المنهج العرضي الأفقي، الثاني: المنهج الطولي.

(16)

إن اختيار المنهج الأول (المنهج القياسي العرضي) يؤدي إلى القول بحتمية عدم تقدم “الرسول” على “الرسالة” رتبة، وأما القول بتساويهما فالراجح هو تقدم “الرسالة” على “الرسول” رتبة، وأما إذا اخترنا المنهج الثاني (الطولي) فإنه سيؤدي إلى القول بعدم مانعية التساوي، وعدم مانعية تقدم “الرسول” على “الرسالة” رتبة، وأما القول بتقدم “الرسالة” على “الرسول” رتبة فيحتاج إلى دليل نصي، أو قرينة عقلية محكمة متينة.

ونقول نافلة .. بأن تقدم “الرسول” على “الرسالة” لا يستلزم منه التوهين بأمر الرسالة أبداً، بل ونجد في القرآن الكريم ما يفيد عدم مانعية تقدم “الرسول” على “الرسالة”، وذلك بما أمر الله تعالى هذه الأمة المرحومة من ضرورة أخذ معالم دينها من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين لكونه المشرع، وهو المصدر لها، فكم هو فرق بين أن يكون “رسول الله” صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين مجرد ناقل كالرسول العرفي، وبين أن يكون هو المشرع، قال تعالى:” وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا”{الحشر/7}، ومع الالتفات إلى الآيات الشريفة التي تقرن طاعة الله وطاعة الرسول فإنها تؤدي بنا إلى اختيار عدم مانعية تقدم الرسول على الرسالة رتبة.

نعم قد يقال بضرورة التفريق في الاختيار لإحدى الأمور الثالثة المتقدمة بلحاظ اختلاف الأنبياء والرسل في المراتب، وتفاضلهم فيها، قال تعالى:” تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ “{البقرة/253}”، والأمر لا يخلو من التحقيق، إلى هنا انتهت الإشارة.

علاقة “الرسول الإلهي” بــ”الرسالة الإلهية”: ولكننا هنا في هذا المقام من البحث سوف ننطلق من علاقة “الرسول” بـ”الرسالة”، لأنه أقرب إلى الفهم، وأبعد عن المقدمات، فنقول بعون الله تعالى: اتضح لنا حجم ما هي عليه “رسالة الله”؛ وحجم ما هو عليه “كتاب الله”، واتضح أن “رسالة الله” و”كتاب الله” فيض من الفيوضات الإلهية والمظهر لأسمائه وصفاته، ولا نجد مانعاً من أن تكون الرسالة والكتاب معلولاً له سبحانه وتعالى لما بين “الرسالة والكتاب” وبين “الله” تعالى من سنخية وتناسب واضح وجلي، فيقتضي هذا –وفق النظرية الطولية- .. ولنستوضح العلاقة بين “الرسول” و”الرسالة” ..1- هل هي علاقة اعتبارية؟، 2- أم هي علاقة السنخية والترابط التكويني؟!.

فبما أننا انتهينا في المرحلة السابقة من معرفة العلاقة بين “المرسِل” و”الرسالة”، وبينا أن العلاقة هي علاقة السنخية والتناسب، وأن الرسالة في الحقيقة حاكية عن معارف الله تعالى وعن كمالاته، وأنها لا يمكن أن تكون غير هذا، فإننا الآن سوف نتحدث عن علاقة “الرسالة” بــ”الرسول” إن شاء الله تعالى.

السنخية بين “الرسالة” وبين “الرسول”: 1- أن يكون حامل هذه الرسالة والحامل لهذا الكتاب عارفاً بما يحمله، لا أن يكون مجرد ناقل لها / له، فيصبح حاله حال “الرسول العرفي”، أو كحال “ساعي البريد” – وقد تقدم بيان الفرق-، 2- كما لا يمكن قبول التجزئة فيما يتعلق بالمعارف الإلهية، فيقال أن “الرسول” عارفٌ ببعضها أكثر من بعض، أو دون البعض الآخر، فإن مثل هذه التجزئة غير مبررة عقلاً، إذ لا يوجد ما يبرر مثل هذه التجزئة، كما أن النصوص الشريفة لم تبين مثل هذه التجزئة رغم كونها مهمةٌ جداً فلو كان الأمر كذلك لبان، فإذا كان الأمر كذلك .. 1- فبما أن “الرسالة” فيض من الفيض الإلهي، وهي معلولة له سبحانه، 2- وبما أن “الرسول” حامل لهذه “الرسالة” بجميع ما فيها من المعارف، 3- ومسؤول عن تبليغها كاملة إلى الأمة، 4- فـ”الرسول” يعرف تفاصيل هذه “الرسالة ” من دون استثناء، وذلك لتحقيق غرض الرسالة، وإلا لانتفى وزال، وهذا يوجب الطعن في الحكمة الإلهية، وكذا يوجب الإخلال بمقتضيات الرسالة وأهدافها، وهما محالان.

(17)

قابليات الرسول ومؤهلاته: فإذا كان يعرف “الرسول” تفاصيل هذه “الرسالة”؛ فإن ما لديه من القابليات ينبغي أن تكون بمستوى قوة ما في “الرسالة” من الرمزية والاختزال –كماتقدم بيانه-، وإلا لكان في البين خلف وفي مختلف الأصعدة، وبه سيظهر التخلف حتماً.
وهذا يعني أن هناك سنخية وتناسب بين “الرسول” و “الرسالة” – بقطع النظر عمن هو متقدم رتبة-، وهذه السنخية توجب أن يكون هذا الحامل للرسالة ذو كفاءةٍ عاليةٍ جداً، لأنه يحمل “رسالة الله” تعالى، فمهمته لا تنحصر في نقل الرسالة؛ بل إن وجود هذا الشخص لابد وأن يكون بمستوى “التمثيل الكامل الحقيقي” لعلم الله تعالى، ولأفعاله سبحانه، وبتعبير آخر؛ لابد من أن يكون ممثلاً حقيقياً لأخلاق الله تعالى وصفاته؛ وبتعبير ثالث أن يرى الناس أنه الممثل لله تعالى في هذه الأرض حقاً لا ادعاءً، وبتعبير رابع أن يكون مرآة للرسالة، بل بتعبير خامس أن يكون مرآة لله تعالى، وهذا يعني أن يكون متحققاً بأسمائه وصفاته تحققاً تاماً، وفي كلا البعدين: 1- البعد العلمي، 2- البعد العملي.

وقد أطلق القرآن الكريم على هذا التمثيل التام الكامل اسم: “الخليفة”، أي “خليفة الله” تبارك وتعالى: قال تعالى :” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً “{البقرة/30}، ولكن .. ترد هنا هذه التساؤلات: 1- ماذا يراد من “الخليفة”؟!!، 2- وماذا يعنى “الخليفة” في الاصطلاح القرآني؟!!، 3- ومن هو “خليفة الله” في الأرض؟!!.

فالسؤالان الأول والثاني يندرجان تحت أبحاث “الخليفة بالمعنى الأعم”، والسؤال الثالث يندرج تحت أبحاث “الخليفة بالمعنى الأخص”، ولمثل هذه التقسيم وبالخصوص في مثل هذه البحوث الدقيقة مهمٌ جداً، لأنه يحمل صفة المائزية، ويساعد على فهم المطالب العلمية بشكل صحيح، وقد لاحظنا من لم ينهج مثل هذا النهج وقع في بعض الاشتباهات الجسيمة، فهذا ما سوف نتعرف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى مع مزيد من الحديث عن مؤهلات هذا الرسول وقابلياته الذاتية وما تتمتع به ذاته من قدرات ..

التحقيق في التناسب بين “الصانع” و “المصنوع”: نؤكد على .. ضرورة التفريق بين العلة وبين المعلول، فإن المعلول مهما بلغ من كماله وأوج جماله فإنه يظل فقيراً وجوداً وبقاءً لعلته التامة، فلا مقايسة بينهما أبداً، نعم إن المستفاد في ذلك هو: أن المعلول لا يكون أجنبياً عن علته، فهو يحمل في وجوده بصمتها، ويغنم من فيض ترشحاتها، وتتشكل بينهما وحدة وانسجام بنحو ما وبنحو خاص، وبهذا التقريب نقول: إن الاستحالة العقلية تقضي بالفرق الأكيد بين “الخالق” وبين “المخلوق” مهما بلغ هذا المخلوق جمالاً وكمالاً، لأنه في نتيجة الأمر لا يكون جماله وكماله سوى إفاضات من فيض هذا “الخالق”، نعم يبقى الكلام بعد ذلك في القول : هل هذه الافاضات الكمالية والجمالية بلا سبب ولا علة أم أنها مشروطة بشروط معينة؟!، فهذا بحثته مختلف عما نحن عليه، ولكن من المهم أن نعلق ونقول: من المؤسف أن نجد البعض يخلط بين الأمرين فيقع في بعض التوهمات، ومنه قد يقوده الأمر إلى نسبة ما لا يليق بالباري سبحانه.

ولما أن نقول أن هذا من إفاضات ذلك الفيض الإلهي، فإن هذا يكشف لنا أن هذا الكائن البشري يملك القدرة والقابلية للتجلي بتلكم الأسماء، والتمظهر بتلكم الصفات، وهذا الأمر مهم في المقام؛ لأنه إذا ما تبين للمرء بوجود مثل هذه المؤهلات لديه فإنه لن يمانع عقله من إمكانية التحقق بها، وهذا يعني أن هناك أرضية في النفس البشرية تساعدها على القول بوجود السنخية والتناسب في البين.

(18)

السفير الإلهي: وبما أن الطبيعة البشرية لا تمانع من التواصل معها عبر “السفراء” فإننا نشاهد جريان نفس الحال على التواصل السماوي، وقد لاحظنا في ذات وجود “خليفة الله” في الأرض وقبل أن يبعث مجموعة من الصفات التي تحمل طابع الامتياز عن سائر الناس في صفاتهم وفكرهم وسلوكهم، وهذا الطابع لوحده لو تأمله المتأمل يكون كافٍ في تنبيه العقول إلى وجود صانع في هذا الوجود، وكأن سلوك هذا الرجل يريد أن يقول “أن هناك من يتولى تربيتي”، ولعل من أهم الآيات التي يستدل بها القرآن الكريم على الإعجاز الإلهي أن يرسل إلى الناس بشراً، إذ وجه الإعجاز هو أن يكون بشراً ويتمتع بصفاتٍ معينة وإذا به يكون حاملاً لصفات الكمال الإلهي، قال تعالى:” وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً”{الإسراء/94}، “فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم وقالوا متعجبين أبعث الله بشراً رسولاً فقال تعالى أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم”، (من كتاب كشف الريبة عن أحكام الغيبة للشيخ زين ادين العاملي)، ولا نستغرب من البشر عامة صدور مثل هذا الاستغراب، وهذه هي النظرة القياسية التي يعيشها الكثير من الناس، وهي لا تفارقهم وإن كانوا داخل الساحة الإيمانية بــ”الرسول”، بسبب ما تراكم على عقلهم من مفاهيم بعيدة عن أصول تركيبتهم الوجودية، ونلاحظ في القرآن الكريم أن عَدَّ هذا الاستغراب والاستنكار ضرباً من ضروب عدم التقدير لله تعالى، ونلاحظ أن هذا بذاته يحمل توجيهاً إلى ما نحن فيه من البحث حول ضرورة الانطلاقة من العالم الإلهية بالذات ثم التدرج إلى عالم الرسول والرسالة، فتأملوا في هذه الآية المباركة:” وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ”{الأنعام/91}، فما هو المانع العقلي من إرسال رسولٍ بشرٍ يتمتع بصفات الكمال؟!، فإن مقتضى العلقة بين “المرسِل” و”الرسول” التناسب بينهما تناسباً وجودياً تكوينياً، حيث أن الأمر لا يحتمل “الاعتبار” وليس من هنا محله.

إطلالة على “الرسول”: وهنا وقبل الدخول إلى الموضوع لابد من العروج على بعض المسائل المهمة في المقام:
أولاً: إن مبدأ السنخية وإن اقتضى الترابط بين الطرفين أو الأطراف، ولكنه لا يوجب الشركية بداهة، فهو في عين الترابط والاشتراك في كثير من الأشياء يوجد تغاير، وهو أمر محتوم، فلا يمكن أن يصبح المعلول في عرض العلة، فهذا من المحالات الذاتية، والمرتبة لكل منهما محفوظة ذاتاً، فما يوجد في مرتبة العلة لا يوجد في مرتبة معلولها، فالعلة غنية بالنسبة إلى معلولها، وهذه تُعَدُّ فقيرة بالنسبة إلى علتها، فالقول بالشركية أو الوحدة المطلقة توهم محض.

ثانياً: ولا بد من عدم الغفلة عن قاعدة مهمة في هذا المقام وشبهه، وهي: أن ما هو لا متناه في كل شئ وعلى الإطلاق فهو “الله” سبحانه وتعالى، وهو ما يعرف بأنه سبحانه وتعالى لا متناه بالذات، ولكن لو نظرنا إلى غيره سبحانه فإنه يستحيل أن يكون لا تناهيه بالذات، فهذا من المستحيلات الذاتية، وإنما يقصد بعدم تناه الكتاب هو التناهي بالغير لا بالذات، فعدم تناه الكتاب العزيز في كمالاته ليس إلا “بالله” تعالى، فمبدأ السنخية لا يوجب حمل ما للعلة من أحكام إلى المعلول بكلها كما تبين، وهذا ما لم يقل به أحد، فإن المعلول يبقى محتاجاً إلى علته “وجوداً وبقاء”، فهو يوجب الرابطة والانضمام الفيضي، فما يفاض من العلة المفيضة من الكمالات لا يمكن أن يُفصل أو يزول، ويحمل هذا “المفاض عليه” كمالات الفياض، وهذا ما يجعل جميع الكائنات على الإطلاق مرتبطة بصانعها، غير قادرة على مفارقته.

(19)

معنى الخلافة الإلهية في الأرض: الفرق بين معنى الخلافة “العرفية” وبين معنى الخلافة “الإلهية”: إن معنى “الخلافة الإلهية” يختلف عن معنى “الخلافة العرفية” التي تتعارف بين الناس، فإن معنى الخلافة المتعارفة بين الناس هي: أن “يوجد المستخلَف بعد غياب المستخلِف”، ولكن هذا المعنى لا يمكن إيراده في حق الباري سبحانه وتعالى لما انتهى إليه العقل من النتيجة بأن الوجود كله حاضر لديه، ولا يغيب عنه سبحانه وتعالى شئٌ أبداً، إذن .. ما معنى “الخلافة الإلهية”؟!!.

الجواب : إن الجواب وبالاختصار هو: المقدمة الاُولى: أن الله تبارك وتعالى ليس بماديٍ يمكن مشاهدته، أو يمكن المباشرة في التعامل معه، وهذا ما انتهى إليه العقل ببرهانه المتين، المقدمة الثانية: أن إدراك حقيقة الله تعالى وكنهه لأمرٌ غير ممكنٍ للعقل البشري، إذ كيف يمكن للعقل المحدود أن يستوعب اللا محدود، وهو أشبه بصندوقٍ صغير يريد استيعاب الصندوق الكبير، فإن هذا لأمرٌ محالٌ، المقدمة الثالثة: إن غفلة الإنسان عن ربه، وابتعاده عن باريه، وانشغاله في عالم المادة جعلته لا يرى الحقائق الوجودية أمامه، فأعمته عن جمال الله تعالى، وعن جلاله سبحانه، وعن كماله جلت قدرته، فكان من أهم اشتباهاته التي وقع فيها هذا الإنسان هو توجهه إلى النقائص ظناً منه أنها هي التي يبحث عنها من الكمال، وأدى هذا إلى الاهتمام بها ما أودى به إلى استحكام الغفلة، فكان لابد من إرجاعه إلى أصله، وإيصاله إلى صراطه، وأخذه إلى ما تطلبه فطرته، وإلى ما تبحث عنه من صميم تركيبتها الوجودية، فبناءً على هذه المقدمات الثلاث نتساءل: 1- هل ينقطع العبد عن خالقه؟!!، 2- وهل يقطع الله تعالى صلته بعباده؟!!.

الجواب: هذا ما لم يحصل.
ولكن ..كيف؟!!، فهذا ما سنتعرف عليه الآن بإذنه تعالى ..
الجواب: قد تبين قبل قليل أن الإنسان بعيد عن الله تعالى، وكان لا بد من تعريف الله تعالى نفسه إلى عباده، فبما أن الوضع يتطلب إلى هذا التعريف، ولا يسمح كذلك للتواصل المباشر لما عليه ذهنية الإنسان الضعيفة بعالم المادة أن يستوعب الحقيقة المطلقة المجردة كان لا بد مِن أن يكون– بين الخالق وبين المخلوق وبحسب ما تقدم من المقدمات – شخص ذا مؤهلاتٍ عاليةٍ جداً إذ يتمكن من إيجاد أرضيةٍ صحيحةٍ صافيةٍ متينةٍ لاخراج العباد من أسر عالم المادة، ومن سجن عالم الحس إلى عالم السعادة الحقيقية وإلى فهم الحقائق الوجودية بشكل سهل وسلس، وبناء عليه ينبغي أن يكون هذا الشخص ذا جنبتين أساسيتين، وهما: الجنبة الاُولى : الجنبة الإلهية في الصفات، الجنبة الثانية : الجنبة البشرية في السمات، فماذا نقصد من هاتين الجنبتين؟!!.

الجواب: إننا نقصد منها الآتي: الجنبة الاُولى: الجنبة الإلهية في الصفات، ينبغي أن يكون هذا الشخص بمستوى عالٍ من المعرفة للخالق، فيكون عارفاً لأسمائه، وعارفاً لصفاته، واقفاً على أدق الدقائق من أفعاله، وأن لا تقتصر هذه المعرفة على مجرد حضور المفاهيم في ذهنه، بل لا بد وأن تكون بمستوى حضور تجلياته سبحانه وتعالى، وأن يكون بمستوى مشاهدة عظمته، كي ينقل عنها نقل الشاعر بها، المندك في حقائقها، من قبيل من يضع يده في النار، فيدرك حرارتها إدراك العيان، لا مجرد إدراك المفاهيم، فكم هو فرق بين معرفة مفهوم النار ولازمها؛ وبين معرفة ذات النار ولازمها.

وأن يكون غير متوان أبداً عن تحقيق إرادة الخالق، وغير متردد في تنفيذ أوامره، وهذا الأمر فرع الكون بمستوى عالٍ من الفهم الدقيق لأوامره سبحانه وتعالى، وأن لا تغيب عنه أي واردة من إيرادات الوحي الإلهي، مستوعباً لكل مفرداته، مستذكراً لمفاهيمه، واعياً لمراد الخالق بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وأن يستطيع هذا الشخص التعاطي مع مفردات السماء ومفاهيمها التي تصدر من الخالق عز اسمه والتي تصدر بلغة عالم الغيب الذي هو بسيط الحقيقة، وسيأتينا فيما سيأتي بعض التفصيل إن شاء الله تعالى.

(20)

الرسالة السماوية رمزيةٌ مختزلةٌ وقت تجليها على قلب الرسول!: فكما تبين سابقاً .. فإن عالم السماء ليس كالعوالم المادية، فلو نظرنا إلى عوالم المادة سنجد كل تعاملاتها وصورها وأشكالها وتجلياتها مادية؛ إلا أن عالم السماء يختلف عن هذه الصور والتعاملات والأشكال .. إذ هو عالم “التجرد”، وبما أن “عالم السماء” عالمٌ “مجرد” فإن ما سيكون فيه من الموجودات سيأخذ حكمه، وهذا يعني لا بد من التعامل معه بمعاييره وموازينه الخاصة المجردة لا من خلال معايير وموازين عالم المادة، ويمكننا أن نقول من باب التقريب: أن لغة عالم السماء تحكمها أحكام “الرمز”، وأحكام “الاختزال” قياساً بعالمنا المادي ذو طباع مادي، والمسألة ليست مستحيلة الفهم، وقد شرحناها لكم سابقاً فليراجع المحل.

وكما عرفنا أن السماء لها تجليات معرفية، وتتمظهر في رسالتها وفي كتاب مختص، وكما عرفنا أيضاً بأن هذا الكتاب وقت تجليه من قبل “الله” تعالى يكون حسب الظاهر بلغةٍ مجردةٍ، وتجري عليه أحكام “الاختزال” و “الرمزية”، وهي لغة عوالم التجرد المطلق، وأن هذا الكتاب السماوي لابد من أن يوجد في صياغةٍ تستطيع أن توفي متطلبات الجهتين:
الجهة الأولى: عالم السماء المجرد: فاستيفاء حاجة ومتطلبات هذا العالم يكون بحفظ كل معارفها التي يراد ظهورها للعباد، ومن دون أية نقيصة، ولا زيادة، ولا تبديل، ولا أن تكون على نحو شرح المعاني والمفاهيم، بل أن تكون هي هي، فلابد لهذه الصياغة أن تتلائم وطبيعة عالم تنزلها الذي تنزلت منه، وهو ليس عالم الحروف الأبجدية، أو أي حرف من حروف اللغة الأرضية والبشرية.
الجهة الثانية: عالم الأرض والناس، فاللغة التي يتكلم بها الناس هي لغتهم الخاصة المؤطرة بأطر الحروف والأبجديات وأحكامها، وهي تختلف -كما تلاحظ هذا بوجدانك – عن لغة السماء المجردة، فلابد من أن توضع تلكم المعارف السماوية الغيبية في قالب يمكن للإنسان معرفة ما تريده إرادة الله منه، وبدقة وأمانة عاليتين جداً، ولا ينبغي أن تكون الصياغة صياغة شرحية أو تفسيرية، بل لابد من أن تكون “بيانية” “تبيانية”، واضحة جداً.

فإيجاد مثل هذه الصياغة التوفيقية، القادرة على استيفاء متطلبات الجهتين ليس بالأمر السهل، فكما بينا أن ما يصدر وقت تنزله من جهة السماء لابد وأن يوضع في قالب أرضي بشري، وهو الذي بينا عنه أن لا بد وأن يكون على شكل رموزٍ عالية المضامين، ومختزلةٍ لمعارفها أيَّمّا اختزال، وهنا يأتي دور “الرسول” والكلام في قابلياته ومؤهلاته واستعداداته؛ فلابد وأن يكون هذا المتلقي لإرشادات السماء ولأوامره – حيث أن من أهم وظائفه حملها وتبليغها إلى أهل الأرض – على : 1- مستوى عالٍ من القدرة على استيعاب المعاني والدلالة المختزلة كلها، 2- مستوى عالٍ من الفهم لرموز الرسالة، 3- مستوى عالٍ من ترجمتها إلى اللغة الأرضية المناسبة وبدقةٍ متناهيةٍ.

وقد يقال هنا: وكيف يمكن أن يترجمها بدقة متناهية؟!، الجواب: ليس ما نقصده من الترجمة أن يقوم “الرسول” بشرح العبارات بالمعنى، كما هو حال المترجم التي ينقل المعاني للكلمات ليفهم مقصود المتكلم، ولكن هنا في عالم “بيان” المراد الإلهي لابد من أن يكون بيانه بياناً حرفياً، وتعريفاً بقوة المرآة، لا أن يكون التعريف بالمعنى، والفارق بين الشرح للعبارة مثلما يفعله المدرس، وبين ما نقصده كبيرٌ جداً، ويمكن تقريب هذا المطلب بـــ: أ- “الصورة” التي تحوي على نسختين، النسخة المصورة، وهي الصورة التي يود صاحبها استعمالها في الدوائر الخاصة أو العامة، والنسخة الأخرى هي النسخة التي تعرف ويصطلح عليها بـ”النسخة السلبية”، وهي التي يحتفظ بها صاحبها لأجل استنساخ صور أخرى شبيهة بالأولى، فالصورتان هما هما، ولكن الفارق بينهما كما عرفته، فكذلك الحال بين ما يتلقاه “الرسول” وبين ما يبثه هو ما عرفته من أمر الصورة، فتأمل، ب- “الفكرة حال تواجدها في الذهن، وحال خروجها إلى العالم الخارجي إما كتابةً أو شفاهةً، فإن الفارق بينهما ليس إلا في “عوالم ظهورها”، -الذهني والخارجي التدويني-، وقد بينا هذا المعنى سابقاً، فتأمل.