Image Not Found

مقبول.. قصة صبر ورضا

Visits: 53

مصطفى محسن اللواتي

وجهٌ سمِح فيه من آثار الطيبة الكثير، وحينما تراه -رحمه الله- كأنك تنظر الى كتلة ابتسامة، وجبل ايجابية.

صوت عال بنبرة خاصة، ولكنه مشحون بضحكة حب وود تحس بها دون ان تسمعها.

ليست لدي معه ذكريات كثيرة -لفارق العمر الكبير نسبيا- ولكن عندي ذكريات عميقة، حفرها داخلي بخلقه الكبير، وصدره الاكبر الذي يسع العالم.

اتذكر في فترة طفولتي ومراهقتي حينما كنت مع اخي وحبيبي محمد (الشيخ محمد علوان” نذهب لبيته، فأم زيد -وهذه المرأة قصة صبر اخرى- هي شقيقة الشيخ محمد، كنا نقضي الساعات والايام في هذا البيت، ولم نسمع منه تبرما او ضيقا، كان يحتضننا كأب كبير، وكانت ابتسامته بوابتنا لراحة النفس، ولازالة التكلف للعبث بالبيت.

رحل عنا مقبول محمد جواد الخابوري، ولكن قبسه لا زال يضيء قلوبنا وينير عقولنا نحو خُلُق قل مثيله.

اعرض هنا بعض مشاهداتي مع “ابي زيد” ذلك الذي اسرني بحبه وخلقه، وبعض ما لمسته من هذا الخلق السامي:

*الكفاح:*
هذا الرجل الكادح جاء من ولاية الخابورة الى مسقط من عائلة عزيزة محترمة، عائلة ثرية لها وزنها ووجاهتها، ولكن كما عودتنا الحياة، فلا حال يدوم فيها، وقاسى هذا الرجل منذ شبابه من ظروف الحياة الصعبة، وتجرع مرارتها، ولكن ككل انسان عزيز يعرف معنى الرجولة، لم يستسلم لها، وعمل بجهده، ولم يكتف بالعمل، بل واصل دراسته في تلك الظروف الصعبة، رغم مشاكله الصحية، ومشاكل النظر التي رافقته طوال عمره، واستطاع ان يحصد شهادة في القانون ويصبح محاميا.

ربما غيري من اصدقائه سيكون اقدر على سرد ما واجهه هذا الرجل من تعب الدنيا ونكدها، ولكنه قابل كل هذا بكفاح قوي، وانا اقولها واثقا: لقد انتصر ابو زيد على الحياة كلها.

*الصبر والرضا:*
الذي يعرف مقبولا لو سنح له ان يستعيد شريط ذكرياته معه، حتما لن يجد يوما ان ابا زيد اشتكى يوما من امر ألمّ به، كان رحمه الله يتقبل كل مرّ يمر به بابتسامة عريضة، وبحمدلة واسعة، وبصبر عجيب، هذا الرجل حياته كلها تتلخص في “الرضا” بما قسم الله له، فلا تجده يتأفف او يشتكي او يلوم، كان يقابل كل هذا واشد بذلك التوكل الكبير، واثقا ان الله سيكشفه، وان دوره الشخصي ينتهي في كل المصائب بالرضا والصبر والشكر.

ابو زيد فقد بصره خلال السنوات الاخيرة، ولكني لم أجده يوما حزينا على هذا، ولم اجده يوما يشتكي، بل تقبل الامر بأسلوب ابتسامته المعتادة، وزاد على الابتسامة انه كان يواسي الاخرين بمرضه.

*الحب:*
عاش مقبول حبا لكل اصدقائه، ولكل من عرفهم، وكان يظهر هذا الحب بكل عفوية، تارة باللسان، واخرى بالفعل، وتارة امام الشخص، واخرى من خلفه، حبه هذا لم يكن تكلفا او اصطناعا، بل كان حبا فطريا نابعا من طبيعته وثقافته، وحبا نابعا من متبنياته الاسلامية العميقة.

اختزل حبه هذا وفاءً كبيرا لمن يحبهم، وسؤالا مستمرا عن احوالهم، وشوقا دائما للقائهم، بل زاد درجة حينما كان لا يعاتب من يحبهم ان قصّروا معه، ويحضنهم وكأن شيئا لم يكن.

وانا شخصيا كنت اشعر بحبه الشديد لي ولاسرتي، كان يحبني ويجاهر بهذا الحب امام غيري، ويصلني كلامه الجميل عني حين يتحدث مع الاخرين، كان محِبا مخلصا وفيا صادقا.

*مساعدة الاخوان:*
هذا الإنسان عاش الشهامة بأجلى صورها، وكان حاضرا لكل من يحتاج عونا او مساعدة، وكان يقف مع الناس أيّاً كانوا، يعينهم باستشاراته القانونية دون مقابل، ويدافع عنهم في المحاكم دون ان يطلب شيئا غير رضا الله وخدمة عبيده، وكان يسعى في حوائج الناس، وايضا له ايادٍ بيضاء لا يعرفها الا القليلون.

وكان ابو زيد سخي النفس كريم اليد، بيته لا يخلو من الضيوف، ومائدته يشاركه بها محبوه ومتعلقوه.

*الإيمان والتقوى*
ارتأيت ان اترك هذه النقطة للاخير -رغم انها يجب ان تكون الاولى- لانها النقطة الاساس في ابي زيد والتي تجمع كل ما ذكرته اعلاه.
فإيمان أبي زيد وقمة ورعه وتقواه، وغيرته على دينه، وشدته في ذات الله كانت اساسه في كل خلق حسن يصدر منه، فالله واوامره ونواهيه وتعاليمه كانت البوصلة التي توجهه، والنبي الاكرم(ص) وآله الاطهار(ع) كانوا قدواته في الحياة، وكان الرجل قمة في الالتزام بكل هذا، وكان شديد الغيرة على كل ما يخص مرتكزاته هذه، لذا لا غرابة ان يتوافق خلقه مع ما يؤمن ويعتقد به.

وايمانه هذا، وغيرته تلك جعلته يدافع عن كثير من قضايا المجتمع، ويقف بجانب الحق الذي لا بد ان يعلو، وهو ما جعله شخصية متميزة.

امس فجرا كان خبر وفاته صدمة كبيرة، ولكنه عزاؤنا انه مضى في شهر هو عند الله افضل الشهور، وفي وقت السحر، بعد ان تسحر ونوى صوم يومه، توفاه الله بعد ان ابتلاه بكثير من مصائب الدنيا، لينقله اليه جل وعلا صابرا محتسبا شاكرا راضيا..

نعم غيّب الموت ابا زيد عن دنيانا، ولكنه بقي معنا بأخلاقه، وبايجابيته، ورضاه وتوكله..

مضى مقبول، وفي القلب دمعة على فراقه، لكنه مضى الى رب غفور رحيم كريم، سيكرمه بإحسانه، وسيغمره برضوانه، وهل هناك اجمل من ان يكون المرء ضيفا عند ربه في شهر ضيافته.