Image Not Found

الحياد الصعب.. أرض ملغومة تنتظر سلطان عمان الجديد

Visits: 26

محمد السعيد – محرر سياسة:الجزيرة – ميدان

غالبا ما يرتبط اسم سلطنة عمان بأحد أكبر الأساطير السياسية المعروفة في منطقة الشرق الأوسط إن لم يكن في العالم بأسره، وهي أسطورة تصف مراسم اختيار الحاكم القادم للبلاد بطريقة أشبه ببرامج تلفزيون الواقع، حيث يستقر اسم الحاكم الجديد للسلطنة في مظروفين سريين منفصلين كتبهما سلطان البلاد المتوفي فجر أمس “قابوس بن سعيد” بنفسه، تم حفظ أحدهما داخل القصر الملكي في العاصمة مسقط، بينما يتواجد المظروف الثاني في قصر ملكي آخر في مدينة “صلالة” الجنوبية، وتميل أبرز الروايات السائدة إلى القول بأن المظروفين يحتويان على الاسم نفسه، وأن المظروف الثاني تم وضعه احتياطيا تحسبا لفقدان الأول بعد وفاة السلطان عن 79 عامًا.

لا تنتهي الإثارة عند هذا الحد، حيث تفيد رواية أخرى شائعة بأن كلا المظروفين يحتويان على اسمين يمثلان الخيار الأول والثاني للخلافة لدى السلطان “قابوس”، فيما تشير رواية ثالثة بأن الظرف الموجود في مسقط يحتوي على اسم واحد، فيما يحوي الظرف الموجود في صلالة اسما آخر بديلا حال عجزت أسرة بوسعيد -عائلة عُمان الحاكمة- عن التوافق على الاسم الأول، وتستند كلا الروايتين الأخيرتين إلى مقابلة(1) أجراها السلطان الراحل “قابوس” بنفسه عام 1997 مع مجلة فورين أفيرز الأمريكية قال خلالها إنه قام بتسمية اسمين بترتيب تنازلي، ووضعها في مظروفين مغلقين في مكانين مختلفين.

وعلى الرغم من هذا القدر من الدراما، تبقى الحكمة المتعارف عليها وفقا للنص الدستوري(2) الذي تم إدراجه عام 1997 هي أنه بعد وفاة السلطان قابوس، المصاب -بحسب ما أفادت عدة تقارير- بسرطان القولون منذ عام 2014، فإن مجلسا يمثل عائلة آل بوسعيد الحاكمة سينعقد لاختيار خليفة له، على ألا يتم الاستعانة بالظرفين إلا في حال عجز المجلس عن الاتفاق على اسم واحد لمدة ثلاثة أيام يتولى الحكم خلالها مجلس مكون من قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية وممثلي مجلس الدولة ومجلس الشورى والمحكمة العليا، لكن المراقبين يقولون إن أفراد أسرة آل بوسعيد سيكونون قلقين من الشرعية التي ستمنحها مظاريف السلطان الراحل إلى درجة أنهم سيطلبون رؤيتها قبل القيام بأي اختيار.

عند هذه النقطة تحديدا تبدأ الدراما في اتخاذ بعدا منطقيا إلى حد كبير، حيث لم يعرف معظم أفراد الأسرة الحاكمة – بل ومعظم العمانيين إن توخينا الدقة – حاكما سوى “قابوس بن سعيد” الذي أتم تقريبًا عقده الخامس في السلطة قبل رحيله، وعلى خلاف معظم السلالات الحاكمة في المنطقة، أدار “قابوس” نظام حكم مركزي بشدة جمع السلطات في يده وحده، حيث تولى السلطان مناصب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والمالية وقائد الجيش وأدار البنك المركزي، كما تولى منصب وزارة الخارجية في معظم الأوقات، في حين حظى بقية أفراد العائلة المالكة بمناصب هامشية خصوصا خلال العقود الأولى من حكمه، ما جعل التكهنات حول خليفة قابوس صعبة، إن لم تكن مستحيلة في وقت من الأوقات.

يرجع هذا الغموض بشكل أساسي إلى كون السلطان لا يمتلك ذرية من صلبه، وقد سبق له أن تزوج لفترة قصيرة فقط من إحدى بنات عمه في سبعينيات القرن الماضي مباشرة عقب وصوله إلى السلطة في انقلاب على والده السلطان “سعيد بن تيمور آل سعيد” بمساندة من بريطانيا والأردن، وعزف عن الزواج بعدها وتفرغ للحكم، لينجح عبر عقود حكمه الطويلة في تحويل سلطنة عمان من دولة قاحلة وفقيرة إلى دولة حديثة ذات بنية تحتية متطورة بفضل احتياطيات البلاد من النفط الغاز، والاستثمارات الكبيرة التي نجح في جلبها.

فمنذ صعود “قابوس” إلى السلطة شهدت بلاده عددا من التغييرات الإيجابية التي لمسها الجميع، حيث انخفض(3) معدل أمية الكبار في السلطنة إلى 5.2%، في حين ارتفع متوسط الأعمار في البلاد إلى 76 عاما بفضل تحسن مستوى الرعاية الصحية، وشهدت البلاد طفرة كبيرة في البنية التحتية، وأسست اقتصادا قويا بمعايير الدول الصغيرة، وفي حين كان قابوس ناجحا في كبح جميع أشكال المعارضة السياسية والاجتماعية، فإنه فعل ذلك باللجوء إلى الحد الأدنى من القمع ودون اضطرابات كبيرة بفضل الميزات الاقتصادية التي منحتها الحكومة لمواطنيها، والحرية الاجتماعية المرتفعة نسبيا وغياب التوترات الطائفية بين مكونات المجتمع المختلفة من السنة والشيعة والإباضيين، وحتى القلة من غير المسلمين.

في الوقت نفسه نجح قابوس في تطوير سياسة خارجية مستقلة لبلاده بعيدة عن الإملاءات الافتراضية للقوى الإقليمية الكبرى التي غالبا ما تحدد سياسات الدول الصغيرة، فمنذ وصوله للسلطة عام 1970، وبعد نجاحه في إخماد تمرد “ظفار”، لم تنخرط سلطنة عمان في أي أزمات إقليمية مع جيرانها ولم تقم بقطع علاقاتها مع أي دولة حتى وفاته، وتجنبت الانحياز في جميع الصراعات الإقليمية التي شهدتها المنطقة بداية من “الثورة الإسلامية الإيرانية” ومرورا بالحرب العراقية الإيرانية وحتى ما يُعرف بـ “الصراع العربي الإسرائيلي”، ثم أمواج الربيع العربي، ثم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، والتي رفضت سلطنة عمان الانضمام إليها في عام 2015، أو بالحصار القطري، الذي لم تشارك فيه السلطنة أيضًا، وليس انتهاءً بعدم الانضمام للحلف الأميركي الإقليمي -غير الرسمي- الموجّه ضد إيران.

وعلى الرغم من ذلك كله، سيشعر العمانيون بقلق كبير حول حقبة الانتقال السياسي المنتظرة بعد رحيل السلطان قابوس، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها البلاد مع انخفاض أسعار النفط، ومخزوناتها المتقلصة من النقد الأجنبي، والتداعيات الأمنية المتزايدة للحرب في اليمن على المحافظات الجنوبية العمانية خاصة محافظة ظفار، والضغوط التي تتعرض لها سياسة الحياد العمانية بفعل الاستقطاب الإقليمي بين السعودية وإيران من ناحية، والدولي بين إيران والولايات المتحدة من ناحية أخرى خاصة بعد اغتيال الأخيرة للجنرال “قاسم سليماني”، وحتى الاستقطاب بين الولايات المتحدة والصين.

لكن العمانيون الآن وعلى الأرجح سيشعرون بقدر من الاطمئنان بعد إنجاز مجلس العائلة لانتقال السلطة في زمن قياسي، حيث تم اختيار “هيثم بن طارق آل سعيد” وزير الثقافة والتراث والأمين العام السابق لوزارة الخارجية خلفًا لابن عمه “قابوس” بدون الكثير من الإثارة أو التعقيدات، وبناءً على وصية السلطان الراحل نفسه في انتقال سلس للسلطة يندر أن تشهده المنطقة. وقد اختار “قابوس” ابن عمه “هيثم” مرجحًا كفته على “أسعد بن طارق آل سعيد” خريج أكاديمية ساندهيرست العسكرية المرموقة والذي تم تعيينه في 2017 في منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون التعاون الدولي، وعلى “شهاب بن طارق آل سعيد” مستشار السلطان الوثيق والرئيس السابق للبحرية الملكية العمانية، في انتظار مدى قدرة السلطان “هيثم” على تحصيل الدعم الذي حظي به “قابوس” من أجهزة الدولة البيروقراطية وزعماء القبائل ورجال الأعمال وحتى رجال الدين، وهو الدعم الذي يعد حيويا جدا من أجل الحفاظ على سياسة البلاد المستقلة، وقبل ذلك تثبيت شرعيته بعدما جاء اسمه من داخل أحد أظرف السلطان الراحل “قابوس” الأسطورية السمعة.

تاريخ السلطنة المحايدة
على الرغم من الصورة المسالمة والمحايدة التي تصبغ السياسة العمانية اليوم، فإن هذه السياسة تبلورت فيما يبدو نتيجةً لعقود من التوترات الدموية، ليس أولها الصراعات الدامية بين السلطنة التي تأسست في نهاية القرن الثامن عشر، وبين نظام الإباضية الذي هيمن تاريخيا على حكم عمان، وقد بلغت هذه التوترات ذروتها في منتصف القرن العشرين حين تم اكتشاف النفط في المناطق الداخلية من عمان مما أدى إلى نشوب تمرد عسكري من الإماميين المدعومين من المملكة العربية السعودية، قبل أن ينجح السلطان “سعيد بن تيمور آل سعيد”، والد السلطان الراحل قابوس، في قمع ذلك التمرد بشكل تام عام 1959، لتنزوي الإمامة كأيديولوجيا سياسية بشكل نهائي، وتبقى الإباضية كمذهب عقدي يشكل هوية الكثير من العمانيين.

لم تقف التوترات عند هذا الحد، ففي نهاية الستينيات اندلع التمرد الماركسي الشيوعي في “ظفار”، جنوب سلطنة عمان، قادما من اليمن، بدعم من الاتحاد السوفيتي ونظام عبد الناصر في القاهرة ونظام معمر القذافي في ليبيا، لكن سلطنة عمان تدخلت لكبح التمرد بكل قوة مستعينة بخدمات شاه إيران الذي قام بنشر جيشه لمساعدة قابوس على إخماد التمرد، ومع استقرار حكم الأخير فإنه بدأ في توجيه جهوده من أجل إعادة تأسيس بلاده اقتصاديا على النمط الغربي متسلحا في ذلك بسياسة خارجية تنأى عن الانخراط في أي نوع من الصراعات.

أدرك قابوس مبكرا مدى حساسية الوضع الجغرافي والطائفي لبلده غير المستقر آنذاك، فعلى المستوى الجيوسياسي تقع(4) سلطنة عمان بالقرب من قلب خطوط الصدع الجيوسياسية الأكثر حساسية في العالم، وبين ممرين استراتيجيين عالميين للطاقة هما مضيق هرمز الذي تشارك السلطنة في الإشراف عليه، ومضيق باب المندب الذي يتحكم فعليا في بوابة البلاد الجنوبية، كما تقع البلاد في الركن الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية وتشارك في حدود برية مع كل من السعودية والإمارات واليمن إضافة إلى حدودها البحرية مع إيران حول “هرمز”، ليجبر هذا الوضع الجيوسياسي المعقد عُمان على البحث عن صيغة لموازنة علاقاتها مع القوى الإقليمية المتنافسة حولها.

وقد فرض التنوع الطائفي في السلطنة حتمية لا تقل إلحاحا لموازنة علاقاتها الداخلية والخارجية، فمع تنوع التركيبة الطائفية للبلاد بين الإباضيين والسنة والشيعة، ووجود فصائل متعددة داخل الطائفة الواحدة مثل شيعة البلاد الذين ينقسمون بين ثلاث طوائف هم الشيعة اللواتية الذين هاجروا من الهند في القرن الثامن عشر، والشيعة البحارنة من ذوي الأصول البحرينية والسعودية والعراقية، وحتى الشيعة الإيرانيين، في ظل ذلك لم تكن مسقط تملك رفاهية الانخراط في الصراعات الطائفية بين السنة والشيعة، وبدلا من ذلك فإنها وفرت فرصا متكافئة لجميع الطوائف في ممارسة التجارة والأعمال وفي تمثيل نفسها في الهيكل البيروقراطي للدولة، مستعينة بالثقافة الإباضية التي تغذي التسامح وترفض التعصب إلى حد كبير.

وكان أول اختبار(5) لسياسة الحياد العماني هو الثورة الإسلامية التي اجتاحت إيران عام 1979، ورغم أن قادة النظام الجديد في إيران كانوا يشعرون بالاستياء تجاه السلطنة بسبب علاقاتها الوثيقة مع نظام الشاه، فإن قرار مسقط بالحفاظ على حيادها إبان الحرب العراقية الإيرانية مكّن البَلَدان من الحفاظ على العلاقات الدافئة بينهما منذ عهد الشاه، وفي الوقت نفسه فإن مسقط لم تُلقِ برهاناتها كلها على طهران، حيث قامت في الوقت ذاته -تقريبا- بالانضمام إلى دول الخليج العربية لتأسيس مجلس التعاون الخليجي، كما وقعت اتفاقية وصول إلى المرافق مع واشنطن في أبريل/نيسان عام 1980 مانحة الجيش الأميركي حق الوصول إلى المرافق العسكرية في البلاد، لتصبح بذلك أول دولة خليجية عربية تدخل في علاقة دفاعية رسمية مع العاصمة الأميركية، وهي علاقات تطورت عبر السنوات مانحة الولايات المتحدة موطئ قدم في ثلاث قواعد عسكرية عمانية هي “ثمريت” و”مصيرة” و”السيب”، التي استخدمتها الولايات خلال غزوها لأفغانستان والعراق عامي 2001 و2003 على الترتيب.

غير أن سياسة الحياد العمانية تجاوزت الصراعات الإقليمية المحيطة بها وتحولت إلى موقف سياسي ثابت حتى في التعامل مع الصراعات التي تتطلب انحيازات واضحة من وجهة نظر الإجماع العربي، حيث اتخذت مسقط موقفا هامشيا إلى حد كبير من النزاع العربي الإسرائيلي، ولم ترسل قواتها للقتال في أي من الحروب العربية ضد إسرائيل، كما لم تقم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر بعد توقيعها اتفاقية سلام كامب ديفيد عام 1979، وأكثر من ذلك، كانت مسقط أول عاصمة عربية تستضيف رئيس وزراء إسرائيلي حين قامت باستقبال إسحاق رابين عام 1994 في زيارة سرية آنذاك، في حين استضاف شيمون بيريز، خليفة رابين، وزير الخارجية العماني في القدس عام 1995، وتبادل البلدان فتح مكاتب تجارية عام 1996 إلا أنها أغلقت في عام 2000 بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

وبدلا من الانحياز المتتالي، حاولت عمان تطوير سياستها المحايدة إلى جهود للوساطة بين أطراف النزاعات المختلفة، فاستضافت أولا محادثات السلام السرية بين العراقيين والإيرانيين لإنهاء حرب الثمان سنوات، وقامت لاحقا بالتوسط في العديد من الأزمات الدبلوماسية التي كانت إيران طرفا فيها مثل الأزمة مع السعودية عام 1991 والأزمة مع مصر عام 2009 وحتى مع بريطانيا عام 2012، ولكنها في ذات الوقت قاومت جميع الجهود ورفضت جميع الأطر التي يمكن أن تفرض قيودا على استقلالها السياسي، حيث رفضت على سبيل المثال مشروع العملة الخليجية الموحدة، وهددت بالانسحاب من مجلس التعاون الخليجي حال استجاب المجلس لطلب السعودية بالتحول إلى اتحاد رسمي.

تحت ضغط الربيع
في المقام الأول، كان الحياد السياسي ولعب دور الوساطة هو وصفة عمان السحرية لعزل نفسها عن الصراعات العسكرية والتوترات الطائفية في المنطقة، إلا أن استقلال عمان الاقتصادي هو ما مكّنها من انتهاج سياسات مستقلة في المقام الأول حيث اعتمدت البلاد بشكل أساسي على مخزوناتها الهيدروكربونية لتمويل النفقات الحكومية، وحرصت(6) على جلب استثمارات متنوعة – خاصة من القطاع الخاص – لإنعاش خزائنها، وفي نفس الوقت تجنبت الحصول على قروض وإعانات نقدية مباشرة من جيرانها الأغنياء سعيا لتجنب الإملاءات السياسية المصاحبة لهذه المدفوعات.

ولكن الأرض بدأت في الاهتزاز بشكل ملحوظ تحت أقدام عمان مع نشوب احتجاجات الربيع العربي عام 2011، حيث كانت السلطنة مضطرة لـ “ضمان ولاء مواطنيها” من خلال مدفوعات سخية لا تتحملها خزائنها المستقرة بالكاد، وازدادت الأمور سوءا في عام 2014 مع تهاوي أسعار النفط بنسبة أكثر من 70% ما تسبب في معاناة اقتصاد البلاد التي تحصل على 84% من إيراداتها من الهيدروكربونات، وكان ذلك يعني دفع مسقط إلى عصور التقشف حيث اضطرت الحكومة لاتخاذ تدابير غير مرغوبة مثل رفع أسعار الوقود وزيادة الضرائب على الشركات وتقليل امتيازات موظفي الدولة ورفع رسوم تأشيرات المغتربين.

وقد انخفض التصنيف الائتماني للبلاد بفعل الضغوط المالية المتصاعدة، وأصبحت تواجه صعوبات أكبر في جلب الاستثمارات وضغوط أكبر من قبل جيرانها الخليجيين للتخلي عن حيادها السياسي خاصة فيما يتعلق بإيران، لكنها استمرت في المقاومة، وكانت السلطنة هي العضو الوحيد في مجلس التعاون الخليجي الذي حافظ على علاقات مع نظام الأسد في دمشق بعد قيام الثورة السورية، ولم تدعم مسقط أيا من جماعات المعارضة السورية على النقيض من مواقف جيرانها في مجلس التعاون الخليجي، ولم تشارك أيضا في حملة الناتو الجوية للإطاحة بنظام معمر القذافي، ومن أجل الحفاظ على استقلالها السياسي استفادت مسقط من الدعم الذي قدمته واشنطن لسياساتها المستقلة بعدما ساعدت إدارة أوباما في التخلص من سجناء غوانتنامو وتنفيذ وعوده بإغلاق المعتقل سيء السمعة عام 2014، وبعد أن لعبت دور البطولة في المفاوضات السرية بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين التي أدت إلى توقيع الاتفاق النووي التاريخي عام 2015.

وحتى وقت قريب، كان الاتفاق النووي هو الإنجاز الأكبر للدبلوماسية العمانية، وهو ما مكَّن عُمَان لاحقا من التمسك بسياساتها المستقلة ورفض المشاركة في الحرب السعودية في اليمن التي تم إطلاقها في مارس/آذار عام 2015 كرد فعل على استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء في العام السابق لذلك، وعلى الرغم من أن اليمن تمثل تهديدا خطيرا لمصالح عمان، حيث تشترك محافظة ظفار اليمنية في 187 ميلا (حوالي 288 كيلومتر) من الحدود مع البلاد، رغم ذلك فضلت مسقط استخدام علاقاتها الإيجابية مع مختلف الأطراف للتوسط باتجاه اتفاق سلام، ورغم أنها فشلت في ذلك فإنها نجحت(7) في المقابل في تأمين الإفراج عن العديد من الرعايا الغربيين في اليمن، وفي الإجلاء الآمن لدبلوماسيي السفارة الأمريكية في صنعاء في فبراير/شباط عام 2015.

ورغم سعي مسقط لتجنب آثار الحرب في اليمن، واصلت تبعات الحرب طَرْق أبوابها بلا هوادة عبر ظفار نفسها التي قمعت السلطنة التمرد فيها قبل خمسة عقود، وكان القلق الأول للسلطنة متعلقا بالتسلل المحتمل لمقاتلي “تنظيم القاعدة” في جزيرة العرب عبر الحدود، لذا فقد سارعت بنشر قوة عسكرية قوية على حدودها مع اليمن وقامت ببناء سياج معزز بتقنيات متقدمة لمراقبة الحدود من أجل مكافحة التسلل المحتمل للمقاتلين والأسلحة عبر محافظة المهرة اليمنية.

ولكن، ما لم تكن عمان تتوقعه في البداية على ما يبدو هو أن جيرانها الخليجيين المنخرطين في الحرب، وعلى الأخص الإمارات والسعودية، يمكنهم أن يستغلوا تواجدهم في اليمن لمحاولة تقويض استقرار عمان. ومع ضيق الدولتين الخليجيتين من “الحياد السلبي العماني” بحسب رؤيتهما، فإنهما حاولتا وضع عمان تحت الضغط من خلال اتهامها بغض الطرف عن تهريب الأسلحة عبر حدودها إلى المتمردين الحوثيين، ولاحقا قامت السعودية والإمارات بتحويل محافظة المهرة التي يقطنها الكثيرين من أبناء القبائل العمانية إلى ملعب جيوسياسي لإثارة أكثر مخاوف السلطنة بشاعة.

بادئ ذي بدء، سعت(8) الرياض لاستغلال البوابة اليمنية من أجل تقويض التوازن الطائفي العماني من خلال نشر ما يقرب من ألف من الدعاة السلفيين الموالين للمملكة في المحافظة، وقيامها بتأسيس فرع لمعهد (دماج) السلفي في المهرة أسوة بما فعلته سابقا في صعدة معقل الحوثيين، ما تسبب في إثارة غضب السكان المحليين مع سيطرة السلفيين المواليين للمملكة على أكثر من 300 مسجد في المحافظة اليمنية، ويعد انتشار الفكر السلفي السعودي تهديدا مباشرا لمحافظة ظفار العمانية التي تُعدّ معقلا سنيا محافظا يمكن أن تستخدمه المملكة لإثارة الاضطرابات للحكومة العمانية في مسقط.

في وقت لاحق، قامت المملكة بتعزيز تواجدها العسكري في المحافظة بنشر 2500 جندي قرب الحدود العمانية، على بعد أكثر من ألف ميل من نقاط المواجهة الرئيسة مع الحوثيين، بخلاف أعداد مماثلة من الميليشيات الموالية للسعودية في اليمن من بينهم مقاتلون سابقون في تنظيم القاعدة، وفق مجلة ناشيونال إنترست الأميركية الشهيرة، وقد أقامت هذه القوات الموالية للسعودية نقاط تفتيش على طول الحدود اليمنية العمانية بدعوى منع تهريب الأسلحة للحوثيين، وقامت بإغلاق معظم المعابر بين اليمن وعمان.

على جانب آخر لعبت الإمارات هي الأخرى دورها في خطة التطويق الاستراتيجي لعُمان منذ سيطرتها على جزيرة سقطرى، لتُحكم بذلك قبضتها على جنوب وشرق اليمن بما يشمل الموانئ الرئيسة في المكلا وعدن والمخا، وبالنظر إلى التواجد العسكري الإماراتي في الصومال وإريتريا فإن أبوظبي تتحكم في معابر التجارة عبر البحر الأحمر وبحر العرب، ما يمكّنها من “خنق” عمان استراتيجيا، ومع إدراك السلطان قابوس للخطورة الكامنة في التحركات الإماراتية على وجه التحديد؛ فقد قرر التصرف بسرعة وأصدر مرسوما يحظر على غير العمانيين امتلاك الأراضي والعقارات في المناطق الاستراتيجية مثل البريمي ومسندم وظفار وغيرها، في محاولة لإيقاف الزخم الإماراتي في هذه المناطق، وفي وقت لاحق، أعلنت مسقط القبض على شبكة تجسس تعمل لصالح أبوظبي.

كانت محاولات التطويق السعودي والإماراتي لسلطنة عمان علامة واضحة على أن الدولتين الأكبر في مجلس التعاون الخليجي ضاقتا ذرعا بسياسات عمان المستقلة، خاصة بعد رفض عمان الانحياز إلى حصار قطر منتصف عام 2017 وقيامها بتوفير طرق تجارة بحرية بديلة للدوحة عبر منحها حرية الوصول إلى موانئها، وهو ما دفع الثنائي الخليجي لمحاولة الوشاية بمسقط لدى الإدارة الأمريكية الجديدة عبر اتهامها بتهريب الأسلحة للحوثيين، ما استدعى زيارة من رئيس وكالة المخابرات المركزية آنذاك “مايك بومبيو” ونائب مستشار الأمن القومي “ريكي وايدل” إلى السلطنة لدعوة السلطان العماني لإغلاق طرق التهريب المزعومة عبر بلاده.

المخرج الأمريكي
في ذلك التوقيت، كانت هناك مؤشرات واضحة أن إدارة ترامب ليست راضية عن العلاقات الودية بين مسقط وطهران، فبعد خطاب ترامب في القمة الإسلامية الأمريكية العربية في السعودية في شهر مايو/أيار 2017، عقد الرئيس الأميركي محادثات ثنائية مع قادة كل دول المجلس، ولكنه ألغى اجتماعا مع نائب رئيس مجلس الوزراء العماني فهد آل سعيد بلا سبب واضح، كما ألغى وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون اجتماعا في العاصمة السعودية مع نظيره العماني.

بدأت عمان تدرك شيئا فشيئا الأولويات المتغيرة للإدارة الأميركية الجديدة التي بدا أنها ستكون أقل تسامحا مع دبلوماسية مسقط الحيادية مقارنة بإدارة أوباما، وأنها ستكون أيضا أكثر ميلا لاتباع وشايات خصوم مسقط الخليجيين مقارنة بالإدارة السابقة، وأصبحت هذه المخاوف حقيقة واضحة حين قام ترامب بنسف الإنجاز الأكبر للدبلوماسية العمانية عبر الانسحاب نهائيا من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، تاركا عمان تبحث عن مداخل جديدة لإثبات فائدتها لواشنطن.

وجاء الحل العماني(9) مجددا عبر بوابة إسرائيل التي اختبرها قابوس سابقا في التسعينيات، وفي ظل تصاعد غير مسبوق في وتيرة التطبيع الخليجي الإسرائيلي قرر قابوس أخذ بلاده إلى مستوى جديد عبر استضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مسقط، حيث راهن قابوس بوضوح على خصوصية العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، ومدى رمزية استضافة نتنياهو علنا في دولة عربية خليجية، وهي منحة يرغب قابوس أن يردها الإسرائيليون له حال أصبحت الأمور صعبة على مسقط في واشنطن.

لم تقتصر رهانات عمان الأمريكية على إسرائيل، وكانت مسقط حريصة على إثبات فائدتها لواشنطن بأكثر الطرق مباشرة، ففي أبريل/ نيسان للعام الماضي منحت(10) سلطنة عمان البحرية الأمريكية حق الوصول المنتظم لميناء الدقم على الساحل الجنوبي للسلطنة وميناء صلالة في الجنوب الغربي، ما منح أميركا منفذ وصول إضافي إلى مياه الخليج وعمق مياه مناسب لرسو حاملات الطائرات وسفن الألغام والزوارق، فضلًا عن منح(11) واشنطن نقطة أفضلية إضافية في سباقها العالمي مع الصين للسيطرة على الموانئ والبُنية التحتية استراتيجية وتهدئة مخاوفها بشأن مشروع الصين الطموح لتطوير ميناء الدقم والمنطقة الصناعية به بقيمة 10.7 مليار دولار.

على الجانب العماني، تخدم الاستراتيجية عدة أهداف متداخلة، وبخلاف شراء المزيد من الدعم الأمريكي، تضع الاتفاقية السلطنة على خريطة المنافسة مع الإمارات والبحرين على عقود البنتاغون المربحة لتطوير الموانئ والأرصفة العسكرية، كما يمنح الاتفاق السلطنة بعض التحوط من تأثير الضغوط السعودية والإماراتية لتوتير علاقاتها مع واشنطن، لكن هذا كله لن يثني الرياض وأبوظبي عن استخدام نفوذهما على الإدارة الأمريكية كورقة ضغط على مسقط لوقف علاقتها مع إيران وربما تقليص علاقاتها مع قطر ودعم سياسات السعودية في اليمن، ولكن إذا نجحت مسقط في تحييد الولايات المتحدة، كما فعلت قطر خلال الحصار، فمن المُرجح أنها ستستطيع التعامل مع هذه الضغوط.

وفي هذا السيناريو، ربما تلجأ السعودية والإمارات لتكثيف ضغوطهما على مسقط من خلال إلحاق الضرر (12) باقتصادها عبر التعنت في توزيع التأشيرات والتضييق على الشركات العمانية العاملة في البلدين وطرد العمالة العمانية والتضييق عليها، وربما الضغط على الشركات الخليجية لسحب استثماراتها من مسقط وتجميد أي تحويلات نقدية، وهي جهود يمكن أن تقلص عمان من آثارها بالسعي لاستثمارات بديلة خاصة من دول آسيا الكبرى مثل الهند والصين.

المصادر:

1- 1Creating Modern Oman: An Interview with Sultan Qabus

2- The Omani Succession Envelope, Please

3-? How Will Oman’s Next Sultan Steer Muscat’s Foreign Policy

4- Why the Strait of Hormuz Is Still the World’s-Most-Important-Chokepoint

5- ?Can Oman’s Stability Outlive Sultan Qaboos

6- https://agsiw.org/in-a-region-beset-by-zero-sum-conflicts-oman-remains-open-to-all/

7- https://www.mei.edu/publications/yemen-war-and-qatar-crisis-challenge-omans-neutrality

8- https://nationalinterest.org/feature/omans-balancing-act-regional-politics-may-not-last-55737

9- https://foreignpolicy.com/2018/11/07/oman-just-bought-israeli-insurance/

10- https://agsiw.org/u-s-secures-access-to-omans-crowded-ports/

11- https://www.ecfr.eu/article/commentary_onshore_balancing_the_threat_to_omans_neutrality

12- https://worldview.stratfor.com/article/oman-will-bend-not-break-gulf-pressure