Image Not Found

سارق الفرح

Visits: 23

طاهره‭ ‬فداء – شرق غرب

كانتْ‭ ‬تشعُر‭ ‬بوخزٍ‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬عندما‭ ‬استيقظت‭ ‬صباحاً،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ابتسمت،‭ ‬حينما‭ ‬تذكَّرت‭ ‬أنَّ‭ ‬عليها‭ ‬الآن‭ ‬أنْ‭ ‬تصب‭ ‬اهتمامها‭ ‬على‭ ‬هُوايتها‭ ‬الجديدة؛‭ ‬وهي‭: ‬الرسم،‭ ‬والذي‭ ‬بدأت‭ ‬تعشقه،‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسها‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬مشغولة‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬مكنونات‭ ‬الهواية،‭ ‬وكيفية‭ ‬تطوير‭ ‬مهاراتها‭ ‬بالرسم؛‭ ‬كي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تصبو‭ ‬إليه‭.. ‬فقررت‭ ‬الانضمام‭ ‬لنادي‭ ‬تخصصي،‭ ‬حتى‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬التدرُّب‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬فنانين‭ ‬محترفين‭ ‬ومهرة‭.‬

وفي‭ ‬أحدى‭ ‬المساءات،‭ ‬وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬دوامها‭ ‬الرسمي،‭ ‬لملمتْ‭ ‬شتاتها،‭ ‬وأمدت‭ ‬ذاتها‭ ‬بالشجاعة‭ ‬الكافية‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬النادي‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬اختيارها‭ ‬عليه،‭ ‬وأخذت‭ ‬معها‭ ‬بعض‭ ‬التخطيطات‭ ‬من‭ ‬صُنعها،‭ ‬لتنال‭ ‬العضوية،‭ ‬وحتى‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬الموهوبين‭ ‬بالاطلاع‭ ‬والنقاش‭ ‬في‭ ‬نوعية‭ ‬التخطيطات‭ ‬التي‭ ‬يستطيع‭ ‬الموهوب‭ ‬أن‭ ‬يُبزها‭ ‬للعيان‭.‬

كانت‭ ‬سعيدة‭ ‬جدًّا‭ ‬بوصولها‭ ‬لمبنى‭ ‬نادي‭ ‬الفنون‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬مُحياها‭ ‬ابتسامة‭ ‬أمل،‭ ‬والشعور‭ ‬بالحماس،‭ ‬وكأنها‭ ‬طفلة‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭.‬

أخذتْ‭ ‬تتأمل‭ ‬الشباب‭ ‬المبدعين‭ ‬وهم‭ ‬يرسمون‭ ‬بالألوان‭ ‬الزيتية‭ ‬والمائية،‭ ‬ويقومون‭ ‬بمزج‭ ‬الألوان،‭ ‬أو‭ ‬بدراسة‭ ‬الظل‭ ‬والضوء‭. ‬فور‭ ‬خروجها‭ ‬من‭ ‬مبنى‭ ‬جمعية‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬محلٍّ‭ ‬للأدوات‭ ‬الفنية،‭ ‬وقامت‭ ‬بشراء‭ ‬دفاتر‭ ‬وبعض‭ ‬الأقلام‭ ‬وعلب‭ ‬ألوان‭ ‬ولوحة‭ ‬من‭ ‬الكنفس‭ ‬وحامل‭ ‬اللوحة‭. ‬وضعت‭ ‬اللوحة‭ ‬بحجم‭ ‬40‭ ‬في‭ ‬40‭ ‬سم‭ ‬على‭ ‬الحامل،‭ ‬وأخذت‭ ‬تفكر‭ ‬بما‭ ‬تخطه‭ ‬على‭ ‬اللوحة،‭ ‬وشعرت‭ ‬بالارتباك‭ ‬حينها؛‭ ‬لأنَّ‭ ‬بياض‭ ‬اللوحة‭ ‬أشعرها‭ ‬بالقلق‭ ‬وعدم‭ ‬الثقة‭ ‬فيما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقُوم‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬تُبدعه،‭ ‬وكلما‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬اللوحة‭ ‬البيضاء‭ ‬زادتْ‭ ‬ضربات‭ ‬قلبها‭ ‬وقلَّت‭ ‬ثقتها‭ ‬بذاتها‭.‬

توقَّفتْ‭ ‬لفترة،‭ ‬ثم‭ ‬تنفَّست‭ ‬عِدة‭ ‬مرات؛‭ ‬فقد‭ ‬يُساعد‭ ‬تدفُّق‭ ‬الأكسجين‭ ‬في‭ ‬رِئتها‭ ‬على‭ ‬الشجاعة‭ ‬والإقدام؛‭ ‬فرسمتْ‭ ‬عِدَّة‭ ‬خطوط‭ ‬على‭ ‬اللوحة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬انهمرت‭ ‬بالبكاء،‭ ‬وتساقطتْ‭ ‬بعض‭ ‬دموعها‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬اللوحة‭ ‬لتَمْسَح‭ ‬بعض‭ ‬الخطوط‭ ‬وتشوِّهها‭ ‬وتحوِّل‭ ‬اللوحة‭ ‬إلى‭ ‬سواد‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬معالمه‭.‬

وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬لهذه‭ ‬الحادثة،‭ ‬قرَّرت‭ ‬الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الدورات‭ ‬الصيفية؛‭ ‬حتى‭ ‬تكسب‭ ‬المهارة‭ ‬والثقة‭ ‬اللازمة‭ ‬والخبرة‭ ‬بكيفية‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مُعطيات‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭. ‬ومرَّت‭ ‬3‭ ‬أشهر‭ ‬على‭ ‬انضمامها‭ ‬للدورات‭ ‬الصيفية،‭ ‬وكلما‭ ‬كانت‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬تشعُر‭ ‬بدهشة‭ ‬لما‭ ‬قامت‭ ‬بإنتاجه،‭ ‬مُتسائِلة‭: “‬معقولة،‭ ‬تو‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬أنا‭ ‬اللي‭ ‬سويته؟‭!”. ‬كان‭ ‬أول‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬لها‭ ‬بعد‭ ‬الدورات‭ ‬التدريبية‭ ‬هو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬منظر‭ ‬لشاطئ‭ ‬جميل‭.‬‭ ‬استخدمت‭ ‬فيه‭ ‬الألوان‭ ‬الزيتية،‭ ‬كانت‭ ‬تشعر‭ ‬بالفرح‭ ‬والفخر‭ ‬كلما‭ ‬نظرت‭ ‬للوحة‭.‬

كانتْ‭ ‬تتأمَّل‭ ‬الألوان‭ ‬وتدرُّجها‭ ‬من‭ ‬الغامق‭ ‬للفاتح،‭ ‬وكيف‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تُبرز‭ ‬زبد‭ ‬البحر‭ ‬وشفافيه‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬رمل‭ ‬البحر،‭ ‬وتداخل‭ ‬الألوان‭ ‬في‭ ‬الصخور‭ ‬والجبال،‭ ‬وتركيزها‭ ‬على‭ ‬الظل‭ ‬والضوء‭ ‬باحترافية‭. ‬كلما‭ ‬نظرتْ‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬الفني،‭ ‬شعرت‭ ‬بأنَّ‭ ‬شيئًا‭ ‬ما‭ ‬يثلج‭ ‬صدرها،‭ ‬ويُنسيها‭ ‬همَّها‭ ‬وفشلَها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مُقدَّسة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أهلها،‭ ‬وكأنه‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬نزلت‭ ‬لتخفف‭ ‬عنها‭ ‬آلام‭ ‬الحياة‭ ‬الروتينية،‭ ‬وكأنه‭ ‬تعويضٌ‭ ‬من‭ ‬ربِّ‭ ‬العالمين،‭ ‬لتشعُر‭ ‬بفرح‭ ‬العيش‭ ‬وطعم‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬كانت‭ ‬تشعُر‭ ‬بأنَّ‭ ‬كبتَ‭ ‬السنين‭ ‬بدأ‭ ‬يطفو‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬ليظهر‭ ‬ما‭ ‬تُخبئه‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬وعذوبة‭.‬

طَوَال‭ ‬ذاك‭ ‬العام‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬تُمارس‭ ‬مهنتها‭ ‬في‭ ‬التدريس‭ ‬صباحا‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬المساء،‭ ‬فهي‭ ‬ترسم؛‭ ‬مما‭ ‬أجبرها‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬وقتها‭ ‬وجدولها‭ ‬اليومي‭ ‬بما‭ ‬يتناسب‭ ‬ومسؤوليات‭ ‬البيت‭ ‬والعمل‭ ‬والأولاد؛‭ ‬بحيث‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬متسعًا‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬لممارسة‭ ‬الهواية،‭ ‬وبمجرد‭ ‬انتهائها‭ ‬من‭ ‬واجباتها‭ ‬المنزلية‭ ‬كانت‭ ‬تهرع‭ ‬للوحة‭ ‬وكأنها‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬مناجاة‭ ‬حبيب‭ ‬اشتاقَ‭ ‬لحبيبته‭ ‬الغالية‭.‬

ظلَّتْ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اقترب‭ ‬موعد‭ ‬تسليم‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬للمسابقة‭ ‬السنوية‭ ‬التي‭ ‬تُقِيمها‭ ‬نادي‭ ‬الفنون،‭ ‬وكل‭ ‬أعضاء‭ ‬النادي‭ ‬مشغولون‭ ‬بالحديث‭ ‬عنها،‭ ‬وعن‭ ‬المشاركة،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يحب‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬عمله‭ ‬الفني،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنسرق‭ ‬أفكاره‭ ‬التي‭ ‬اقتبسها‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الإنترنت،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زياراته‭ ‬الخاصة‭ ‬لأحد‭ ‬رواد‭ ‬الفنون،‭ ‬ورعاة‭ ‬الجيل‭ ‬الأول،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مساعدة‭ ‬أحد‭ ‬المختصين‭ ‬الأجانب‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬البلد؛‭ ‬حيث‭ ‬يقوم‭ ‬هؤلاء‭ ‬بمساعدة‭ ‬المبدع‭ ‬أو‭ ‬الفنان‭ -‬كما‭ ‬يُسمَّى‭- ‬بمناقشة‭ ‬مُخطَّط‭ ‬عمله‭ ‬الفني،‭ ‬والبعض‭ ‬يُساعد‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬وإخراجه‭ ‬أيضا‭. ‬كلُّ‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬غير‭ ‬مألوف‭ ‬لديها‭. ‬ولكن‭ ‬وبعد‭ ‬تسليمها‭ ‬أعمالها‭ ‬الفنية،‭ ‬سمعت‭ ‬الكلُّ‭ ‬كان‭ ‬يتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬هُوية‭ ‬لجنة‭ ‬التحكيم،‭ ‬والتي‭ ‬بالعادة‭ -‬وكما‭ ‬جرى‭ ‬العُرف‭- ‬تكون‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬البلد،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬أين،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الوحيدة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬طيبتها‭ ‬الزائدة‭.‬

قبل‭ ‬المسابقة‭ ‬بيوم‭ ‬واحد،‭ ‬حَضَرت‭ ‬لجنة‭ ‬التحكيم‭ ‬واجتمع‭ ‬معها‭ ‬المسؤولون،‭ ‬لكن‭ ‬اختيار‭ ‬اللوحات‭ ‬المستحقة‭ ‬للفوز‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬المعايير‭ ‬الحقيقية،‭ ‬بل‭ ‬المجاملات،‭ ‬والمحسوبيات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬المعايير‭. ‬

يوم‭ ‬الحفل،‭ ‬لبست‭ ‬هي‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬لديها،‭ ‬وتأنَّقت‭ ‬كالعادة،‭ ‬وذهبت‭ ‬للحفل‭ ‬بكل‭ ‬أمل‭ ‬وحب‭ ‬وصدق‭ ‬نوايا،‭ ‬وانقلبت‭ ‬الحال‭ ‬بعد‭ ‬إعلان‭ ‬النتائج،‭ ‬وأصبحت‭ ‬تشمُّ‭ ‬رائحة‭ ‬الخديعة،‭ ‬وغبار‭ ‬المصالح‭ ‬الشخصية،‭ ‬وقفَ‭ ‬بجانبها‭ ‬رجلٌ‭ ‬خمسينيٌّ،‭ ‬قميصُه‭ ‬قديم‭ ‬مُلطَّخ‭ ‬بضربات‭ ‬فرشاة‭ ‬قوية،‭ ‬وممَّزق‭ ‬في‭ ‬الزوايا،‭ ‬وتبدو‭ ‬على‭ ‬قسمات‭ ‬وجهه‭ ‬آلام‭ ‬العطاء،‭ ‬وخطوط‭ ‬الطيبة،‭ ‬قال‭ ‬لها‭: “‬لا‭ ‬تزعلي‭ ‬يا‭ ‬بنت،‭ ‬أنت‭ ‬الضحية‭ ‬رقم‭ ‬104‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجمعية،‭ ‬وإذا‭ ‬قررتِ‭ ‬الاستمرار‭ ‬بهذا‭ ‬الصفاء،‭ ‬فقُومِي‭ ‬بعدِّ‭ ‬الضحايا‭ ‬معي‭”!‬

في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬نظرتْ‭ ‬إلى‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬السيارة،‭ ‬فضحكتْ‭ ‬في‭ ‬خاطرها،‭ ‬وقالت‭: “‬لقد‭ ‬أصبحت‭ ‬الآن‭ ‬أعرف‭ ‬عدد‭ ‬جيد‭ ‬ممن‭ ‬يسرقون‭ ‬الفرح‭”.‬