Image Not Found

مجانبة الإفراط والتفريط

Visits: 48

هلال بن حسن اللواتي

سواء كان الإنسان مدنياً بالطبع أو كان مستخدما بالطبع فإن التعاملة مع أخيه الإنسان أمر مفروغ منه، وخلال هذا التعامل تُستعمل مجموعة من أدوات التواصل التي تعرف بالتواصل الاجتماعي، ومن أهم التواصلات الاجتماعية التواصل اللفظي، والتواصل الكتبي، وكلاهما يبرزان مكونات هذا الإنسان، ويترجمان مراده، ويوصلان أفكاره، ويحققان متطلباته، ويعكسان مستوى تواصله وكيفيته ونوعيته.

وخلال هذه العملية التواصلية سواء كانت لفظية أو كتبية فإن هناك مجموعة غير قليلة من الأدبيات والأخلاقيات تحكمهما وتحكم الإنسان، فبالتقيد بها تبرز فيه الجنبة العقلية وبمجانبتها يحكم عليه أنه شخص غير عاقل، ويؤثر هذا الحكم العقلائي والعرفي على شخصيته وصورته عند المجتمع، الأمر الذي يعقد تواصله الاجتماعي ولربما يحوله إلى شخصية سلبية في المجتمع.

والتعامل مع الناس فن ضمن ضوابط إنسانية توجهها الأحكام العقلية وترشدها التعاليم الدينية، فبالتكامل بين الأمرين –الفن والضوابط- تتحقق الحياة السعيدة، وتنتج مجتمعاً صحياً سليماً، يرتاح له الآخرون، وتسكن بالتعامل معه النفوس، وتطمئن بالتواصل معه العقلاء، وإلا .. إذا ما لم يتقن الإنسان فن التعامل فإنه يخسر شخصيته قبل أن يخسر من حوله من الناس، ولن يعيش سعيداً، بل .. إنه ما ينتهي من مشكلة إلا ويقع في الأخرى.

ومن هنا كان من الضرورة أن يتعلم الإنسان فن التعامل مع الآخرين، وهذا الفن يتماشى مع الأنماط العقلائية من جهة، ومع الضوابط العقلية من جهة ثانية، ومع التعاليم الدينية من جهة ثالثة، وينسجم مع الوجدان والفطرة الإنسانية من جهة رابعة، فمن خلال هذا الرباعي المنسجم تنضج المجتمعات وتثمر في علاقاتها، وترتقي بمستواها السلوكي، وتعرف بالمجتمع المثالي، ولا ينبغي الخلط بين ما هو كائن من عدم وجود المجتمع المثالي في الواقع وبين ما ينبغي أن يكون عليه حال الإنسان بلحاظ ما يتمتع به من إمكانات وقابليات ومؤهلات تمكنه من الوصول إلى مستوى تكوين المجتمع المثالي.
وشخصية الإنسان لا تتقوم فقط بثقافته ومعارفه، فهي أمر أقرب إلى التزود بالمعارف والمفاهيم بالكمبيوتر، إلا أن الكلام كل الكلام في كيفية استخراجها وترجمتها في الواقع العملي، وهنا تدخل الضوابط والفنون الكلامية المنطقية في آداء الدور المناسب.

فالحياة تمتلئ بالاختلافات والتنوعات وبمستويات عديدة، وكل منها يحتاج إلى تحديد وظيفة وموقف في الكلام مختلفاً عما يتطلبه الآخر، وهنا يأتي دور تحديد العقل والفهم والوعي في وضع الكلام في موضعه، وفي وضع السكوت في موضعه، فليس كل كلام يناسب كل مكان وكل شخص وكل زمان، وليس كل صمت وسكوت يناسب كل مكان وكل شخص وكل زمان، فلا بد من وعي الحياة بشكل صحيح، واتخاذ القرار المناسب لتحديد الموقف المناسب.

وبعد اختيار الموقف تأتي مرحلة الإسلوب في إيصال الفكرة إلى المقابل، فهل يكون بالسكوت أم بالكلام، ثم لا بد من التنبه إلى كيف أن يكون السكوت والكلام، وهل يكفي السكوت السلبي أم لا بد من الاستعانة بالسكوت الإيجابي، وكم المقدار في إظهاره وإبرازه.

وهنا قد يتدخل عنصر “لغة الجسد” فهو يساعد على إيصال الموقف العملي والوظيفي إلى المقابل، وهو يدخل عادة في كلا الاسلوبين الكلامي والسكوتي، ولكن .. يحتاج هذا الأمر إلى فن في تفعيلهما لأداء الغرض الذي يراد منه ذلك.
ولا يظن أحد أن السكوت أفضل من الكلام، فهذا الأمر غير صحيح، والمحدد الأساسي لمعرفة ذلك هو الموقف الذي يكون فيه الإنسان، وهو لا يكون متساوياً أو مشابهاً لموقف الإنسان الآخر، فلكل شخص في المجتمع “كاريزما” خاصة به، وتأثير الكاريزما يختلف من شخص إلى آخر، ولهذا من الخطأ تربوياً محاولة تأنيب طفل أو شخص ما مقايسة بالآخر، إن الكلام قد يكون أفضل من السكوت، وهذا أيضاً يتحدد بالموقف الذي يكون فيه الإنسان.

وينبغي أن نشير هنا إلى أمر مهمٍ جداً وهو: إن الإنسان بطبيعته متعلم، هو في طور الخروج من الجهل إلى العلم وبشكل مستمر ودائم، فلهذا هو محتاج إلى مرشد وموجه، يرشده إلى الوعي الصحيح والفهم الصحيح، وهذا الفهم والوعي يدخل في معرفة نوع الفئة المستهدفة، ومعرفة الزمان والمكان، ومعرفة المختار من المعلومة الموجودة في الخزانة العقلية، ومحتاج إلى تعين الموقف الصحيح، فهل هو واجب أم مستحب وهل هو عقلي أم سلوكي، وتعيين الإسلوب الصحيح فهل هو بالسكوت السلبي أم الإيجابي، وهو باللفظ بجملة أم كلمة أم قصة أم فكر، أم نص، وهل يحتاج إلى لغة الجسد، وهل يحتاج إلى استعمال نبرات الصوت وكيفية ذلك، ومستواها.

ونضيف هنا أن عملية السكوت والكلام تحتاج إلى الثبات على الوسطية والاعتدال، ومجانبة الافراط والتفريط، وهذه الصراطية على الاستقامة ليس بالأمر السهل، فهذا أيضاً يحتاج إلى معرفة وفن فيه.

إن الأداء الصحيح للإنسان في سار المواقف الحياتية يحتاج إلى ذلك الزاد المتقدم ذكره، ولهذا نشأت مدارس كثيرة تعنى بخصوص كيفية التواصل مع الناس، ويحاول كل أن يقدم ما لديه من خلال تجربته ومعرفته، وبالرجوع إلى النصوص القرآنية والروائية، وبالرجوع إلى سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وبالرجوع إلى أهل بيته وإلى أصحابه المنتجبين الكرام رضوان الله عليهم سنجد ثروة تربوية عظيمة جداً، ترشد الإنسان إلى التعايش الجميل مع الآخرين، وإلى اتخاذ موقف الصمت والكلام في المواقف التي تتطلبها، وبتوازن مبدع من دون الوقوع في رذيلة الافراط أو التفريط.

والمتأمل في قصص القرآن الكريم سيد الكم الهائل من المعارف المتعلقة بهذا الفن من السكوت والكلام ومتعلقاته التي ذكرنا بعضها قبل قليل، كما نجد في قصص الأنبياء وسيرتهم وعلى رأس قائمتهم سيرة نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، فهي سيرة غنية جداً من فن التعامل مع الناس، وبالخصوص مع الذين كانوا يقفون موقف العداء والحقد مع رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وكانوا يقفون موقف المعارضة الشديدة التي وصلت إلى درجة البحث عن طرق اغتياله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين، فكان صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين يتخذ معهم مسلكاً إلهياً، فكان كلامه يحقق الهدف المنشود من التأثير على المقابل، وكانت النتيجة إما الرضوخ لكلامه صلى الله عليه وآله الطاهرين وإما إقامة الحجة عليه.

ويدخل في إسلوبه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين التعزيز والتشجيع على الموقف المناسب من السكوت والصمت أو الكلام حسبما يحتاج الموقف، فكان صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين يقدم للمسلمين والصحابة الأجلاء الكرام رضوان الله عليهم محفزات من بيان الثواب الجزيل وما أعده الله تبارك وتعالى للمواقف التي يتخذها الإنسان وفق تكليفه الشرعي المقترن بالعقل والمنطق، فمن جملة ما ورد عنه صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين في ذلك ما ورد عنه:” ان في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها يسكنها من امتي من أطاب الكلام وأطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام، فقال علي يا رسول الله ومن يطيق هذا من أمتك؟

فقال يا علي أو ما تدرى ما إطابة الكلام من قال إذا أصبح وأمسى سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر عشر مرات”.
وفي هذه الرواية الشريفة نجد أن إطابة الكلام ليس محمولاً بالمعنى العرفي، ولكنه أخذ طابع حقيقة أخرى، وهذا يعني أن الإنسان يستعين على قيادة لسانه في سائر شؤون حياته بالذكر الإلهي، فهو موجه إيجابي أكيد في التحدث مع الناس وفي اتخاذ الموقف المناسب من دون أن يكون سلبياً أو يترك أثراً سلبياً في المقابل.

وتجدر الإشارة في ختام هذه المقالة إلى أننا نحتاج إلى عناية وتوفيق في كلامنا وصمتنا، ولا يمكن الاعتماد على القدرات الذاتية، إذ أن هناك قدرة الله تعالى تمكن من التزود بالأساليب الصحيحة للمواقف المناسبة، ومن دون مدخلية هذه القدرة الإلهية من الصعب على الإنسان أن يحقق النجاح الشمولي، نعم هو قد يتوهم أنه نجح، إلا أن هذا سيكشف له لاحقاً أنه قد غيّب بعض الحلقات في سلسلة الأداء للكلام والصمت، فضاعت عليه فرصة النجاح الشمولي، وهذه المسألة مبرهن عليها من قبل العقل، وقد قدمت النصوص الشريفة هذه الحقيقة في كثير من بياناتها، كما أن التجربة الإنسانية كفيلة لإثبات هذه الحقيقة، وكل هذا يرجع في خاتمة الأمر إلى مطابقة “الاحتياج الذاتي” للكلمة والسكوت، والاحتياج الذاتي للموقف والفئة المستهدف أيضاً، نسال الله تبارك وتعالى أن يوفقنا إلى الصمت الصحيح وإلى الكلام الصحيح الموافقان للشرع والعقل والعرف.

المصدر: جريدة عُمان – العدد 13744 – الجمعة 18 يناير 2019